تهـــــاويم
نشرت بكتاب عام 2007
اجــــــابة مطلقـــــــة
بريق عينيه المشع من خلال نظراته
المخيفة.. يوقع في نفس كل من ينظر إليه شعوراً بضرورة تجنبه بكل وسيلة ممكنة، ومع
هذا لم يترك هذا الشعور أثراً في نفسي وبالتالي لم اسارع إلى تجنبه.
في عمق تلك العينين، وفي تفاعل تلك النظرات
اكتشفت إنساناً غير هذا الشخص المُهلهل الثياب، الممزق النفس، لقد عرفت ذلك الإنسان
المدفون في غياهب هاتين العينين، الساكن في عمق نظراتهما الباردة الممتزجة ببلاهة لم
تكن من طبيعتها.
تبحث عن مجهول.. مقهورة من شيء ما.. من
خلالهما ادركت ذلك الإنسان المطموس في أعماق اللامعقول داخل هذه الشخصية المتوحشة والمتشحة
بكل غريب.
عرفته يافعاً يحمل قلباً وعقلاً طموحين
يجتازان كل حد معروف للطموح، صامتاً حين يكون الصمت ملاذاً، متحدثاً ينساب عذب الكلام
من شفتيه حين يكون الكلام لزاماً.
كنت اسكن ذلك الشارع الموغل في تفاصيل البلدة
القديمة، المرتكز في أكثر احيائها عبقاً برائحة القديم، جاء من قريته النائية لمتابعة
دراسته في المدينة، كان منزل أقاربه الذين نزحوا قبله هو صلة معرفتي به التي بدأت بالتحايا
المعتادة ، لتصل إلى لقاءات الجيران المعتادة التي تفرضها المناسبات التي تجمعهم في
مثل تلك الأحوال والأماكن .
فاجأني بتقدم تفكيره عن عمره الذي لم يتجاوز
العقدين، مهتماً بأمر دراسته، كانت عشقه الوحيد لا يشاركه شيء في ذلك سوى الكتاب يفزع
إليه حين ينتهي منها بنهم غريب.
بدأ قناع الخجل القروي الذي يغلف حياته
ينزاح مع تكرار لقاءاتنا خصوصاً بعد تعرفه على مكتبتي التي اختصرت كثيرا من مسافات
مد جسور المعرفة بيننا، أدركت إنه حين يكون فيها ينطلق لسانه من كل عُقله حين
يتحدث، وإن صمت فإن صمته يحاط بهالة من قداسة غريبة، وحينها تلتهم عيناه كل محتويات
الكتب التهاما.
كان يعيش بإدراك محنك خبر تجارب الحياة،
ويحوي عقله مكاناً غير المكان الذي يحوي جسده، ويشعر بشعور زمن غير الذي يعيشه، وكعادة
الحياة ثبات الأمور فيها من المحال، تضطرنا إلي مفارقة من نحب، ومغادرة كل الأمكنة
التي تسكننا قبل أن نسكنها وتفرض علينا وجوهاً وأشخاصا يختلفون، ها أنا اضطر إلي ترك
ذلك الشارع الحامل لكل ذكرياتي، واغادر ذلك الحي الساكن في نفسي منذ أن تنفست عيناي
ضوء النهار.
رأيت في عينيه ذلك اليوم نظرة يُطفئ وهجها
حزن ساكن في أعماقه، وترنو منها توسلات يكبتها خجله الأبدي من أن يصرح بها تراءت لي
فكرة مع أخر حمولة أثاث تخرج من ذلك الشارع، فتركت له قسماً مما املك من كتب، شاهدت
بعدها ألقاً في عينيه يحمل فرحاً راقصاً.
اخرج تباريح الذكريات من إنسدالها من تجاويف
الذاكرة صوتاً أجشاً غريباً، انتفضت بالتفاتة ناحية مصدر الصوت، كان هو وقد اقترب مني
طالباً.. ( سيجارة ) لم يكن يدخن حين تركته! ماذا افعل الآن ؟ فأنا لا املك سيجارة،
لأنني ببساطة لم أدخن ولو واحدة في حياتي.
كرر طلبه.. زادت حيرتي، انقذني احد المارة،
هذه سيجارة لك يا (…..) اسم غريب .. لم يكن اسمه… قهقه ذلك الشخص ومضى إلى حال سبيله.
عدت لتأمله.. شعره المصفف بعناية أوان لقائي
الأول به، أراه الآن أشعثاً مغبراً تقف كل مجموعة منه لوحدها، لم يتخلله ماءٌ ولم يدخله
مشط منذ زمن طويل، ملابسه التي كانت تنم عن ذوق راقٍ في اختيارها، اصبحت عبارة عن خرق
بالية تحمل كماً من الأوساخ أخفى تماما أب لون لها، كما أن لحم جسده لم يعد خافيا
بفعل الفتحات العديدة التي طالت كل شبر في ملابسه.
فتحة فمه تميل إلي اتجاه أكثر من الأخر،
لسانه يتدلى خارج فمه لعابه يسيل حتى أغرق صدره، ماذا حل به؟ وأين ذهبت صورته المميزة
التي عرفته عليها؟.
هيه..أستاذ..دعك منه..لن يتركك بطلباته
الكثيرة والغريبة، وكلامه الذي لن تفهم منه شيئاً، إنهم جيل مارق ما أن يشعر احدهم
بأنه اصبح خارج دائرة المراقبة، حتى يجر على نفسه الهلاك، ويتبع الأهواء التي توصله
الى هذا الحال.!. قالها مار بقربي دون
أن يتوقف.
هل يعقل أن يكون هو صاحب ذلك العقل المتزن..
والفكر السابق لعمره.. المتلفع بذلك الخجل الأبدي الذي ترعرع عليه .. كيف وصل الى هذا
الارتداد.. تساؤلات وظنون ظل صداها يعتمل في صدري دون إجابة مطلقة.
طبرق في 8-6- 2004
مشـــــاعر حـــــــارة
رغم تناغم الأمور الجديدة في حياته مع أحلامه
التي عاش زمنا طويلاً يسعى لتجسيدها وسط محيط رسمه في خياله، ورغم قناعته بأنه وصل
بها إلى ما يجعلها تزهر كما أراد لها.
الآن مشاعر معاكسة تدور في داخله، تجذبه
في حركة طرد تجاه ذلك المكان، حيث ترك جذور احلامه التي هرب بها إلى هنا، لكي تينع
وارفة على أرض هيأت لتحقيق الأحلام.
تأقلم بسرعة مذهلة مع كل الأطياف والألوان،
يزيده اصراراً تعابير مرتسمة بالإعجاب على وجوه تنضح بجليد الجمود، هنا تقاس أهميتك
بما تنجز، فقط اعمل ثم اعمل، المشاعر لها مكانها ووقتها، وحتى في مكانها وحين وقتها،
لا تتعدى كونها رابطاً يوصلك إلى هدفك، وبعد أن تصل إليه تنتفي الحاجة إلى المزيد منها.
حيث تركهم هناك الكل يتشارك حتى في المشاعر،
الإخفاق لن يطالك وحدك، والنجاح يشاركك فيه الكل، الشمس هناك دائماً باسمة، الأرض لها
رائحتها المميزة، الوجوه لا تشعر بغربتها عنك حتى مشاعرك الداخلية تجدها معكوسة على
مرايا الوجوه المألوفة.
كان في ذلك المكان، وبين تلك الوجوه، وفي
تلك الأرض حيث تفتحت أفاقه على كل الدروب، يشعر بضيق حدود المكان، وقصر مسافة الزمان،
حتى تلك المشاعر التي تفاعل معها، بدأ يشعر بأنها قيد يَحِدُّ من انطلاقته نحو طموح
يتجاوز الزمان وحيز المكان.
ترتسم في ذهنه الآن صورة المكان المختلف،
حيث تحقيق الطموح إلى الشمال حيث الطريق الموصل إلى الجديد دائماً، يسكن
تفكيره يقين أن لا شيء هناك سوى الأمور الصحيحة.
سيخرج من قوقعة الماضي، وكل افعال الزمن
البعيد، ليعيش واقعه بتاريخ اليوم، ويتفاعل مع معطيات الحاضر والمستقبل.
داس على بقية مقاومة لمشاعر عاندت للحظات،
وأد كل الدموع التي ترقرقت في مآقي عيون أحبته وأحبها، أصاب قلوب عديدة بصدمة التحول
إلى البعيد المجهول، مارس القمع حيال كل رأي اوحى له بأن الصورة التي تجذبه بعيداً،
قد يكون في لبها مالا يراه على سطحها.
تلاشت أمام إصراره كل هواجس الشك، ولم يتبق
في مخيلته إلا أن يغادر، مهما كان ثمن ذلك باهظاً، ها هو يصل أخيرا حيث كان يتمنى،
تحققت أحلام راودت خياله سنيين طويلة.
لذة الوصول بدأت مرة كالعلقم، تتهادى أمام
عينيه صور الماضي كفراشات جذلى، تحوم في ضحى يوم مشرق، حول أزهار بللها ندى صباح يوم
ربيعي، ذهبت
نشوة الفرح بالوصول، بدأت تحل فكرة تمحيص الواقع الجديد، بعقل ونظرة يختلفان كثيراً.
شعور ينتابه بتلاشي لذة الانجذاب نحو الأرض
التي يقف عليها الآن، زالت الأقنعة الجميلة التي كانت تغلف وجوه البشر هنا، كل الجمال
المحيط به ؛ أصبح يترآى له الآن بشكل يحمل الغرابة في كل تفاصيله.
بدا يتهاوى من داخله، ارتسمت في ذهنه حاجة
ملحة للعودة، شعر ببرودة الواقع المحيط به، نظرات مخيفة تحمل له ألف معنى ومعنى، عقله
يعجز عن تفسير أي شيء حوله منها.
تسربت نجاحاته، كتسرب الماء من بين الأصابع،
تناسته كل الوجوه التي أحاطته بود بارد، صار الجمود يغلف كل تصرفاتها، صراع بين تحمل
اللامشاعر والنجاح هنا، وبين أن يعود ويتحمل وطأة المشاعر الحارة.
في صباح أخر يوم بارد رسالة مطوية بعناية
على سطح المكتب، لم يدع له مضمونها فرصة للتفكير طويلاً، لملم أغراضه، ويمم شطر الجنوب
حيث المشاعر الحارة تطغى على كل شيء.
بنغازي 24-04-1989
فكــــرة
يتواصل نزف يراع القلم على صفحة الورقة
ليرسم بضع كلمات تتلوها سطور ناقصة، ثم يعود
فيكور الورقة بين يديه لتجتمع مع سابقاتها داخل جوف السلة البلاستيكية المُشبَّكة،
التي تقبع بين رجليه تحت سطح المكتب العتيق.
يبحث عن فكرة ما، عن لحظة لحدث، يطارد الكلمات،
يحاول تجميع السطور، تهرب الفكرة، تبتعد اللحظة، تتبخر الكلمات، تجري السطور، وتتكور
الأوراق، وتقترب السلة على الامتلاء.
قلق بالغ يجتاح كيانه، يفشل في اصطياد الفكرة،
أسئلة تلح بقوة ،هل اضمحلت ذاكرته إلى هذا الحد؟ هل نضب معين مخزونه إلى درجة الجفاف
؟.
لا يدع الاستسلام يفرض امره، يعيد الكرة،
ومع كل إعادة تعود لحظات القلق ، بضع كلمات لا يفهمها، تتبعها سطور غير مكتملة، وفكرة
كالسراب كلما قرب منها زادت ابتعادًا، تتكور الأوراق والسلة على وشك التخمة الورقية.
لقد كان
خياله خصباً واسعاً، ماذا أصاب الكلمات حتى تتبخر قبل أن تنسكب على وجه الورق، أين
ذاكرته التي كانت تستوعب كل سطور الكلمات؟ أين ذلك الألق المرتسم فرحاً على سطور الورقة
لتزدهر كلماتها، ويظل صداها يتردد في الأذهان.
يجبر أصابعه على احتضان قلمه، يحرك يده
بصعوبة، ترتسم الكلمات دون بريقها، السطور تظهر دون ألقها، تتكور الأوراق مجددا، وتبدأ
السلة في تقيء ما بجوفها.
يتوقف .. يلعن الفكرة، ينتابه كُره للكلمات
والكتابة، يرمي القلم بقوة ليصطدم بالجدار تاركاً أثاراً من دمائه، يتعثر بالسلة يقذفها
برجله بكل ما أوتي من قوة، تتطاير الأوراق المكورة في كل الأنحاء .
يبدأ في تجميع الأوراق المتناثرة، يهم ببداية
عملية التمزيق، تتلألأ كلمات على السطح المكور، كلمات تشع حروفها مكونة فكرة جديدة
سطور ناقصة لا تحتاج إلى عناء كثير، يُلملم باقي الأوراق المكورة من كل مكان وصلت إليه،
يلتقط قلمه المحتضر، لا يعبأ بدمائه النازفة، يجمع الكلمات، يوصل السطور، يفرد كل الأوراق
المكورة، تسترسل الكلمات، تتعانق السطور، وتتجسد الفكرة واقعا على سطور الورقة.
طرابلس 27-7-2004
ابحــــــــار
تختلط الأشواق وسط لجة بحر الأيام، تخرج
آهة غضبى تدفعها دقات قلب ينبض بنقاء تلاشى وسط عتمة ليل ؛ غلفت دياجيره سكون حياة
خفت وهج نورها فتحول الانجذاب بعيدا عنها.
هناك حيث الاكتئاب ينثر ظلاله فَرَحاً على
بريق السرور، تلمع عينان بتناغم الهدوء الممزوج بالعنف، والحب المغلف بالحقد، والصفاء
الممتلئ كدراً، يجتمع فيهما ألق الشروق وحزن الغروب ويكتسي لونها ضوء النهار المغلف
بظلمة الليل، هناك يرتسم التناقض بكل وضوح.
تحاول أن تستوضح ما يحيط بك، تسمع أنة مكلومة،
تقترب تجدها تخرج من بين شفتين ضاحكتين، قبل أن يتبادر إلى ذهنك أي ردة فعل تتفاجأ
بقهقهة مدوية، تلتفت إلى مصدرها، تجد صاحبها يغالب دماءه النازفة.
اختلط الصدق بتباشير النفاق، اقتنع الكثيرون
بان الأول هو الثاني عبثا تحاول اقناعهم بغير ذلك، تعاند، تقاوم، تتلاشى قدرتك، أخيرا
شيء ما يدفعك للبحث عن وسيلة تقنعك لتصير مثلهم .
تسلك كل السبل، تجدها في النهاية تجتمع
في محطة لا عنوان لها، ومع هذا يصلها الجميع بأيسر السبل، أنت فقط بعيداً عنها، لم
تزل تتعاطى مع معطياتك التي تشربت بها أفكارك، لكن ما يثيرك أن الآخرين يصلون إلى كل
شيء قبلك، رغم عدم إلمامهم بكل معطيات النجاح التي أنفقت ردحاً من عمرك بحثا عنها
.
تفكر أمام كل معضلة تقابلك، تحاول إيجاد
مخرج منطقي، تخجل أن تنظر إلى الحل القريب منك، حيث يكفي نظرة من تحت الطاولة.
تُتْرَى المشاهد متدافعة لتصب كلها في بؤرة
الاهتمام، لا تزال تمسك طرف الخيط الموصل إلى كل قناعاتك، التي زرعت فيها أوتادك الروحية،
تصل، تجدهم حيث هم دائما، تطرب لما يصدر منهم
نحوك، يبجلونك، يقدرونك، تكتشف بعد حين بأنها مجرد كلمات لاكوها بألسنتهم أمامك ؛
وسرعان ما بصقوها وراءك بمجرد استدارتك، ها هم يتفرقون ليسدوا في وجهك كل المنافذ المؤدية
إلى الهدف.
تقاوم، تتفاعل، تجد نفسك وحيداً، تستسلم،
تبحث عن ذلك المنهل الذي شربوا منه، تقف عنده ورأسك كساقية منهكة تدور فيها كل قناعاتك،
تدفعك إلى التردد حيناً من الوقت، لحظات الواقع الزائف تنتصر، تنمحي كل أثار الماضي،
تودعها غياهب النسيان تَجرَعُ الكأس دفعة واحدة، ووسط ذهول الحقيقة تجد نفسك محاطا
بالجميع ليمنحوك كل الاهتمام.
طبرق
في 20-5- 2004
ثلاث نساء
الأولى
هالها ما اكتشفت، العيون الشبقة تترصدها،
رغبات جسدها الناضج تدعوها لولوج حياة أخرى، رائحة الغنج تلفح أنفاسها، شعرت أخيراً
بأنها تطرق كيان الأنثى، داعية كل الرجال لتأملها.
جميع مقومات حواء الظاهرة والباطنة تتراءى
لها راقصة حول كل بروز بجسدها، إنها بحاجة إلى رجل يكمل لها كل معطياتها الوافرة فيها
كامرأة.
القلق البارد الساكن نفسها يحتاج إلى دفء
رجولي، هاجس الأنثى يلح عليها بقوة مذيباً قطع ثلج الحياء المترسبة في أغوار نفسها.
تتكاثر..تتراكم ..تتخثر الأحزان، لتنسكب
دموعا من عينيها، تدفعها تلك التفاعلات إلى البحث، غاصت في أعماقها الموحشة، فتشت في
حناياها، دققت في كل تفاصيلها، فكرت في كل ما مر بها، طفت إلى سطح الواقع، أيقنت بعدها
إنها بحاجة إلى روح تجعلها أنثى حقيقية.
الثانية
كنت دائما أشتهي امرأة تحبني، تنثر عبق
الأنثى على جدران حياتي، اندلق التعب في كل عضو من جسدي، بحثت ودققت في وجوه وأجساد
كل النساء، انبثقت أمامي كزهرة ربيع في غير أوانه دعاني حقل الياسمين على للتمتع
بعبقه، هربت من همومي بقربها تماهت روحانا، الذبول بدأ يرتسم بوضوح على خطوط ملامحي
الانسحاق يملأ نفسي، تراءت لي صورتها غريبة موحشة، أسنانها بارزة حادة، شفتيها قاحلتين.
عيناها يكسوهما الاحمرار بعد كل عناق،
بدأت تشرب ماء الحياة من جسدي، واستمر في الذبول بعد كل لقاء، استنجدت بآخر ما تبقى
من سريان للحياة في شراييني، تحرك أخر خيط للتفكير في عقلي لم تسلبه مني.
فكرت وتدبرت ثم عقدت العزم، أطبقت وأنا
في حالة وئام مع كل جوارحي على بؤرة الحياة فيها، تململت فواصلت الضغط، بدأت تنسحق
تحت وطأة هجومي، تخلصت من وهن الذبول، حالة من الهدوء اجتاحت جسدي، همدت، ارتخت أعضائها،
تركت المكان بهدوء، ومنذ ذلك اليوم صرت اهرب من كل النساء .
الثالثة
نظرت إلى الساعة المتوقفة منذ أن تفتح جسدها
الملتهب بين يداي أحاول لملمة الثواني النافقة، تلملم شعرها الغجري المبعثر بتعمد صدرها
النافر استنزفت منه كل أسرار البهجة، نسينا ما يحيط بنا دخلنا إلى جحيم الغياب.
كلما تقدمت ساعات الليل، ازدادت رغبتنا
في الاستمرار، يزداد سطوع جسدي بفعل غسيل البهجة، في أعماقي اشعر بجفاف للروح الفرح
ينتشر على جسدي لكنه لا يترسب في أعماقي.
اشعر بضيق يجتاحني، لحظات قاسية تتسرب إلى
داخلي، تتملكني البهجة الخارجية، وتترسب الأحزان في قاع جفاف الروح، أحاول أن أصل إلى
قرار، أضغط بعنف على تفاعلات الألم، أتخلى عن جسدها الفائق الاشتهاء، انزع يداي المغروزتان
في لجته، أجد روحي تعالج خوفها الكئيب، اكتشف زيف جسدها، انسل هارباً إلى غير رجعة.
طبرق 1-6-2004
بقايا دمعـــــة
انكمش في زاوية الجدار ضاماً رجليه بيديه
إلى صدره، رافعا ركبتيه إلى مستوى ذقنه كمن يتقي ضربات يوجهها له مجهول.
عيناه تدوران في محجريهما، تبحثان عن ما
يجلب له الاطمئنان وسط هذه الأجواء الجديدة الضاجة والصاخبة بكل غريب وجديد عليه .
أفاق من حالة الذهول التي تملكته على صوت
أخيه ألأكبر الذي آتى به إلى هذا المكان ؛ واجبره على الركون في هذه الزاوية، وان لا
يغادرها حتى يأتيه من جديد .
تناهى إلى سمعه صوت أخيه، وكأنه يسمعه للمرة
الأولى بنبرات غير نبرات صوت أخيه الذي تعود عليه ؛ قبل ولوجه هذه الحياة الجديدة.
استنتج من صوت أخيه وجوب الوقوف حالاً،
تحامل على نفسه مجبرا جسده على الارتكاز فوق قدميه المتأرجحتين، فقط عيناه هما الوحيدتان
من جميع حواسه اللاتي تمارسان مهامها بنجاح، لم تكفا عن الدوران عن ما حولهما، تراءت
له الألوان بغير طبيعتها، صور الأشخاص رغم الفتها لعينيه إلا أن مسحة من غرابة طالت
تفاصيلها لتظهرها بشكل أوجس منه خيفة .
تعلقت عيناه بذلك الرجل المسن الذي تعود
على مشاهدته يجلس مع أبيه وبقية رجال الشارع، رغم صغر سنه إلا أنه أدرك بأنه يمثل الركيزة
في تواجدهم، يعلو صخبهم وضحكهم بمجرد جلوسه معهم حتى إن الكلام في حضوره يصبح حكراً
عليه وحده.
كانت مشاعر الحب هي التي تملأ كيانه تجاه
هذا الرجل، منذ أول يوم شاهده فيه، لكن صورته الآن أفزعته، يداه تتقاذفان بحركة سريعة
عصا طويلة، يلكز بها بين الحين والآخر احد الأطفال ليجبره على العودة إلى ذلك الصف
الطويل، الذي عجز رأسه الصغير عن فهم الغرض من إجبارهم على الوقوف فيه.
بدأ صفاء عينيه يتلاشى، وأخذت الصور تتداخل
أمام ناظريه منقسمة إلى صور عديدة، لم يعد يتبين ما يحدث أمامه، وما يجب عليه إتباعه،
فاجأته تلك العصا الطويلة بلكزة في جنبه، كادت أن تسقطه أرضاً لولا وجود أحد الأطفال
أمامه .
تمالك نفسه قليلاً، فداعبت مؤخرة رأسه صفعة
قوية، تلاها وابل من كلمات لم يعرف لها تفسيرا، حملته موجة الأطفال المتدافعين تحت
تهديد العصا الطويلة لترمي به وسط حجرة واسعة الأركان، حملق في أرجائها بعينين تسدل
عليهما غشاوة الدمع ستاراً من الضبابية، يمنع عنها الرؤية بوضوح.
أثار انتباهه طرق عنيف على باب الحجرة،
توجه بنظره ناحية مصدر الصوت، شاهد مقدمة العصا تنقر الباب بقوة، خيم بعدها سكون مخيف
على الحجرة، قطعه صوت صاحب العصا، آمرا الجميع بالجلوس في المقاعد، تدافع الأطفال كل
منهم إلى اقرب مقعد، ظل جامداً مكانه وكأن الأمر لا يعنيه.
انتشلته قبضة قوية من حالة الذهول،
لتحمله إلى احد المقاعد، أجبر على الجلوس في احد جانبي المقعد، زادت غيوم عينيه تلبداً
ولتزداد معها صعوبة الرؤية، شعر بجلوس طفل إلى جانبه وبحركة لا إرادية تراجع إلى الناحية
الأخرى، غير أن تلك الناحية كانت محتلة من طفل أخر، حُشر بين الاثنين، شعر بضيق في
صدره، وكأنهما يتعمدان زيادة آلامه.
أمرٌ واحد في كل ما يحدث له كان يدعوه للتساؤل،
صخب الأطفال ولعبهم ومرحهم، كأنهم تعودوا هذا الأمر، بدأت دموع عينيه في الانهمار لتبلل
ملابسه، أكثر الأشياء التي سمع عنها توصيات من والدته.
تغيرت مشاعره عندما خطرت على باله والدته،
توقف عن التفكير في تفاصيل الأمور التي حدثت له، طارداً كل إحساس بالخوف اعترى كيانه،
ولتنقشع كل الغيوم التي منعت عينيه من الرؤية، عاد لتأمل المكان بشكل مختلف، إحساس
داخلي قوي أجبره على الوقوف داخل المقعد، ورغبة قوية تدعوه للخروج من باب الحجرة.
دفع الطفل الجالس إلى جواره، وقع الطفل
على أرضية الحجرة، مرق كالسهم من الباب، وجد نفسه وسط الفسحة الواسعة للمبنى صوب نظرة
نحو الهدف النهائي في تمرده المفاجئ، لابد من الوصول إلى ذلك الباب الكبير.
ازدادت دقات قلبه وهو يقترب من تحقيق هدفه،
لمح عن بعد صاحب العصا الطويلة، يجلس في الحجرة الملاصقة لذلك الباب الكبير.
تردد قليلاً عند رؤيته للعصا وصاحبها، لكن
تردده لم يصمد طويلاً أمام إصراره الغريب، استجمع كل قوته في انطلاقه قوية حاثاً رجليه
على الركض بكل ما أوتيا من قوةٍ، شاهد من بعيد صاحب العصا يبتسم ابتسامة مؤكدة له أن
لا فرار منه، بحركة مباغته لا يعرف من أين تأت له افلت من بين يديه.
استرق نظرة للخلف، شاهد صاحب العصا مكوماً
على الأرض و عصاه الطويلة ملقاة على بعد خطوات منه، واصل هروبه ناحية المنزل، شاهد
الباب مفتوحاً، اندفع بقوة من خلاله رأى أمه جالسة حيث تعود أن يراها، شعر بان كل الأشياء
توافقت مع طبيعتها رمى بجسده في حضن أمه، ماسحاً بقايا دمعة ترقرقت في عينيه.
رؤوس لامعــــة
تحسست مؤخرة رأسي بأطراف أصابعي وتوقفت
عند نقطة تغورت بحيث يمكن لبنان الإصبع التحرك فيها بحرية، حركت أحد أصابعي فيها لبرهة،
ومع تلك الحركة ارتسمت صورا عديدة عادت بالذاكرة إلى ساعات ظهورها بذلك المكان من جمجمتي.
كان الشوق لانقضاء شهور الدراسة يأخذ منا
كل مأخذ، وتبدأ عقولنا الصغيرة مع بداية عطلة الصيف بالتخلص من مسؤوليات وأعباء الدراسة،
نتفرغ للهو واللعب دون سواهما، ومع بداية اليوم الأول في العطلة كانت تميز الجميع ظاهرة
واحدة تجعل من الصعب التعرف على أي منا من مسافة غير قريبة.
كانت رؤوسنا جميعا تتجرد من الشعر، بناء على رغبة
أمهاتنا اللائي يبغين من وراء ذلك الراحة من أعباء الإشراف والمتابعة لنظافة وتمشيط
الرؤوس يوميا.
أما نحن فكان الأمر يعني عيدا، ومهرجانا
للرؤوس اللامعة حيث نتجمع بعد إزالة الشعر، ونأخذ في تفحص تضاريس الرؤوس الملساء لتبيان
ما طرأ عليها من تغيير، بعد أخر فحص لها في الموسم الماضي ، كان كل فرد في المجموعة
يُمنى النفس بالعثور على ندبة، أو علامة في رؤوس الآخرين، ولا بأس من أن يكون الحظ
أكثر توفيقا معه حين يجد ما يبحث عنه في مؤخرة الرؤوس لأن وقع النتيجة على أصحابه سيكون
التواري خجلا، حتى تكتسي رؤوسهم شعرا من جديد يواري سوأتهم تلك.
أما من يجد الآخرون له ندبة أو علامة في
مقدمة الرأس، سيكون أكثر حظا، وتكون ردة الفعل تجاهه من السهولة بحيث لا تدعوه للتواري
من الآخرين، لأن عذره أن العلامة استقبلها، وهو مقبل لا مدبر.
يبقى الصنف الثالث والأخير، وهو من يمثل
قمة الهرم في المجموعة، وهم أولئك الذين لا ندب لهم على الإطلاق، لا من أمام ولا من
خلف، فهم على قلتهم، فهم دائما الأكثر بحثا وحرصا على هذا المهرجان.
قبل بداية موسم التماع الرؤوس هذه السنة،
انظم لمجموعتنا وافد جديد، وبما أنه أكد لنا رغبته القوية في الانضمام إلينا تعمدنا
أن نشترط عليه شرطنا الوحيد، وهو أن يكون من ضمن حليقي الرؤوس.
كنت أمثل الطبقة الأعلى مرتبة للسبب الجوهري،
وهو خلو رأسي من أي أثار مزعجة، أضف إلى ذلك كبر سني عن البقية، وكنت أكثر حرصا على
أن ينفذ هذا الشرط.
في ذلك الصباح تفاجأنا به يركض نحونا، وابتسامة
عريضة تملا وجهه، ويداه تدوران في حركة دائرية ، بمجرد وصوله إلينا تحلق الجميع حوله،
والعيون تتفحص كل شبر في رأسه، كنت أكثر الحاضرين قلقا من أن لا أجد علامة له، لكن
بعد لحظات تبدد ذلك القلق ليحل محلة سرور عظيم، فها هي ندبة عميقة وواسعة، في مؤخرة
رأسه، أكبر من كل الندب والعلامات على باقي رؤوس المجموعة.
شعرت بزهو بالغ جراء هذا الاكتشاف، رافقته
رغبة عارمة في السخرية منه، البداية بوصف الكيفية التي ختمت بها تلك العلامة، وعللت
للبقية بأن هذا الوافد الجديد يمثل نوعية من الجبناء، الذين لا يستطيعون مقاومة أعدائهم
ولو بالركض من أمامهم، مما أتاح الفرصة لذلك المعتدي في التفنن في ختم تلك العلامة،
بكل راحة ودقة.
لم أرحم توسلاته بأن أكف عن الاستهزاء به،
بل لم أعطه حتى الفرصة لكي يدافع عن نفسه، أو يوضح سبب وجود تلك العلامة، ومع يأسه
من الأمر انقطع عن صحبتنا، بل والاختفاء عن الأنظار كلما رأى أحد منا، زاد هذا الأمر
من عنادي وغروري، وأصبحت أتحين مرات ظهوره القليلة، لا لشيء إلا لكي أتمتع بإذلاله
ببعض الكلمات اللاذعة.
مرت عدة أيام لم أشاهده فيها، مؤثرا عدم
الخروج من المنزل نهائيا، لكنني استطعت أن أصطاد خروجه في احد المرات أمام باب منزلهم
أسرعت نحوه، شعر بوجودي، عاد للداخل، شعرت به يقف خلف الباب الموارب، أسمعته وابل الكلام
المعتاد، أعقبته بحالة ضحك عنيفة.
تركته ويممت شطر البقية في مكان التجمع
المعتاد ؛ قبل أن أصل إليهم بخطوات شعرت بارتطام شيء حاد وقوي بمؤخرة راسي، مما جعلني
أفقد توازني وأقع في مكاني.
حاولت النهوض، شعرت بشيء ساخن ولزج يندلق على عنقي،
وضعت يدي حيث مكان الألم، عادت يدي ملطخة بالدم، وقفت مترنحا، شعرت بشخص يقف إلى جانبي،
استدرت ناحيته، كان هو ولمحت في عينيه ألقا وزهوا، تحاملت على نفسي مقررا العودة للمنزل،
بعد قطع مسافة من ذلك المكان، سمعت صوته يأتي قويا من ورائي: أرني كيف ستقنع الآخرين
بأسباب هذا الختم أيها الشجاع ؟
طبرق 8-2-2005
بالقلم الاحمـــر
دخلت الغرفة، لم تعر وجوده اهتماما، ترتدي
ملابس يعرف جيدا بأنها استعارتها من إحدى صديقاتها الموسرات، خريطة وجهها تدل على فحوى
المناسبة التي كانت تحضرها.
وقفت أمام المرآة تحاول خلع ملابس الزاهية،
بينما هو جامد خلف مكتبه الذي تتكدس فوقه كومتان من الكراسات، واحدة أكثر ارتفاعا من
الأخرى.
بدد الصمت المطبق جملة ثقيلة فقدت معناها
من كثرة تكرارها، سأتركك يوما ما إن ظللت على هذا الحال، قالتها وأصابعها تتحرك بآلية
محددة تفك خصلات شعرها المصفف بعناية، لم أرك يوما تدخل هذا المنزل إلا بأكداس الورق
هذه، ولم أر سوى اللون الأحمر يخضب رؤوس أصابعك، وبقايا الطباشير تلطخ ملابسك ووجهك،
أسترق نظرة نحوها شاهد وجهها محدبا في المرآة، أفزعة صوتها، لا فرق بينك وبين ورق هذه
الكراسات، عشر سنوات لم تسمعني فيها كلمة غزل، كل ما سمعته منك جملا ناقصة، واصلت كلامها
المغلف بضحكة ساخرة، حتى في السرير الذي يختلف فيه كلام كل الأزواج في كل أنحاء الدنيا،
تستمر أنت في إعرابك للكلمات، تواصل كلامها بحنق كل الرجال يعملون ولكن ليس على شاكلتك،
الصمت يعم الغرفة، والقلم يواصل حشرجته على وجه الورقة، مهندسون أطباء، حتى عمال الورش
يتطورون، فقط أنت وحدك لم تزل على حالك و ستظل، مُعلم، يا لها من مهنة رائعة، قالتها
بسخرية واضحة.
تقترب من المرآة وفي يدها منديل ورقي، تحاول
فتح فمها بطريقة توائم عملية المسح، وتستمر في الحديث الغاضب: أنت تعمل كترس في آلة
لا يناله سوى الحركة الدائبة، ومرتب لا يفي من الحياة إلا تفاهاتها، يخمد صوتها لحظات،
يعلو صوت حركة القلم على الورق، حتى تلاميذك الذين أثقلت كراساتهم كاهلك، واضمحلت قوة
إبصارك في تدقيق كتاباتهم، لا يعبئون بك، وكثيرا ما وجدت أثار تقديرهم لك عبرات ملصقة
على ظهر معطفك.
بدأ وجهها يظهر من وراء قناع الماكياج بفعل
المسح، أنت رجل مهووس بمهنتك، حتى إعلانات الشوارع لم ترحمها من تصحيحاتك، ربما أنت
الرجل الوحيد في العالم الذي يقرأ الصحيفة وفي يده قلما أحمرا.
تضيف وهي منهمكة في إكمال عملية المسح
: كل صديقاتي يستغربن مواصلة عشرتي واحتمالي لعسر الحياة معك، ليتني سمعت كلام والدتي
من البداية، لطالما حذرتني من أن الحياة مع أمثالك لا يميزها شيء، إلا كلام منمق يضيع
وسط أعباء الحياة.
تتطلع إلى نفسها في المرآة، تبتعد قليلا
ثم تقترب منها، تتلمس بأصابعها نقاطا مختلفة من وجهها، الحفلة كانت مليئة بزوجات المسؤولين
صحبة أزواجهن، ورجال الأعمال وزوجاتهم بسياراتهم الفارهة، وملابسهم التي لم أرها في
حياتي، بل لم تخطر حتى على بالي.
تشعر بلا مبالاته ،تحاول اغضابه، لقد مللت
منك ومن اسطوانتك المشروخة التي حفظتها عنك ورددتها بغباء على الذين اعرفهم الحياة
صعبة، الغلاء، المشاريع تحتاج إلى رؤوس أموال كبيرة نوفر ما نحتاج لحياة كريمة، وصلت
الآن لقناعة بأنك رجل على حافة الجنون، كل واحدة من صديقاتي تمتلك سيارة، أما أنا فلم
يرد ذلك حتى في أحلامي، والسبب في ذلك ارتباطي بك.
تمسح أخر بقعة لون عن وجهها، هل أستطيع
أن أسافر كباقي النساء كل صيف إلى دولة ؟ صوت القلم يأن على صفحات الورق لا فائدة من
الحديث معك، ولكن تأكد بأنني سأهجرك يوما !.. تذهب إلى السرير تندس تحت الغطاء، تزفر
بآهة غضبى، تضع الوسادة على رأسها وتدير له ظهرها.
على المكتب تتناقص إحدى الكومتين، بينما
الأخرى تزداد ارتفاعا في الصباح، يبحث عن ما يضع فيه رجليه، لم يثر فيه اختفائها من
السرير في ساعة مبكرة أي ردة فعل، يذهب إلى الحمام، يطلق وابلاً من المياه الباردة
على رأسه، يتجه ناحية الطاولة، يتأمل إحدى كومتي الكراسات، ورقة موضوعة بعناية فوقها،
كانت بخط يدها، يبدأ في القراءة، ها هو اليوم الذي وعدتك بأنني سأتركك فيه قد آن أوانه،
يتوقف، تتغضن جبهته، يقترب حاجباه، يفتح عينيه ثم يغلقهما، يتناول القلم الأحمر يشطب
كلمات، ثم يكتب كلمات جديدة بالقلم الأحمر فوقها.
طبرق
1-1-2001
ارتجــــــــافات
سحر المكان وهدوء وسكينة اللحظات المحيطة
به، أطلقا العنان لأفكاره لتشرد في حرية دون أي منغص ؛ من أمور حياته التي المعتادة
.
رجلاه تقودانه بعيداً عن المكان الذي اتخذه
بقية الأصدقاء تجمعا ،هربا من
ضغوطات حياة يعشونها وسط غابات الجدران،
وتلوث طال حتى السمع والبصر، اتفقوا على هذا المكان المميز، حيث يلتقي البحر بالجبل،
في لوحة رائعة تبعث على الشعور بالخلاص من
كل هموم ورتابة الحياة المعتادة.
تدفق الهواء منعشاً إلى رئتيه ، شعر بنقاوته وطراوته، ومع هذا الشعور خيل إليه أن
جسده أصبح أقل كثافة ، وكأنه تخلص من إحساسه بالجاذبية، فصارت خطواته أقرب للقفز.
لم يعد يتبين تضاريس الأرض من حوله،
ولم يعد يميز الاختلاف فيما يري أثناء تجواله،
نقطة واحدة أثارت انتباهه، وارتسمت كنقطة فارقة
في ذهنه تلك البئر المترعة بالماء، التي اغترف منها غرفات باردة شعر معها بارتواء تام، لم تفعله من قبل كل قناني
الماء التي شربها.
فقد الإحساس بعاملي الزمان والمكان، واصل تجواله
حتى وجد نفسه وسط أجمة من أشجار قصيرة، وأعشاب ملتفة تتخللها صخور منبسطة تصلح للجلوس وللتمدد عليها .
جلس على إحداها، وأتبع جلوسه باستلقاء على
ظهره واضعا رأسه بين يديه المشبكتين خلف رقبته ، ومع وضعه هذا بدأ ذهنه الذي يشعر الآن بأنه أكثر صفاءً منذ
مدة طويلة، كان الارتياح هو الغالب على مزاجه في تلك اللحظات، رغم تنوع المشاهد واختلاف
محتواها، فجأة برز بقوة مشهد لم يترآى منذ زمن، كان يعتقد بأنه انمحى من ذاكرته نهائيا، منذ أن غادر سنوات الطفولة،
كان لظهور هذا المشهد وقعا غريبا على حالته النفسية في تلك اللحظات أضطر للجلوس وتفحص
المكان، وليتفحص حقيقة الزمان والمكان حوله.
شعر بسيطرة مشاعر الخوف الطفولي على تفكيره
في تلك اللحظات ، ولتبدأ أصداء ذلك المشهد المندثر في عقله الباطن للعودة بقوة وتطرق مسمعه بعنف .
إنها غير مرئية، تتشكل بأشكال مختلفة، عيونها
مستطيلة، لا تمشي على أرجل، تجوب العالم في أقل من رمشة عين، تقتل دون سلاح، تختطف الصغار، تسحر الكبار وتحولهم إلى مسوخ
غريبة.
بدأ هلع سنوات الطفولة يفرض سطوته على عقله
في تلك اللحظات ،عاد لتأمل المشهد من حوله، تخيل كل ساكن حوله يتحرك حركة مريبة ، تحامل على
نفسه ليقف على رجليه، بلع ريقه بصعوبة
، تفحص المكان من حوله، تراءت له أشكال غريبة تترصده، جر رجليه في محاولة للهرب من
المكان .
الأصدقاء بعيدون
عنه في تلك اللحظات،
الشمس غادرت منذ مدة لتترك المجال للعتمة لتطبع الأشياء بطابعها، غذ المسير للهرب من
ذلك المكان الساحر والمخيف في آن معاً.
بدأت دقات قلبه كطبول حرب تزمجر داخل أذنيه،
متواقعة مع خطوات أقدامه على الحصى الأملس
المنثور على في ذلك السبيل الترابي.
فجأة انبثق أمامه، وكان الأرض انشقت عنه، ودون أن يترك له فرصة لأي ردة
فعل سأله : ما بك
يا رجل ؟ قبل أن يفكر في الإجابة شيء ما أوحى إليه أن يتأمل ذلك الشخص، وعلى غير العادة في التأمل، وقعت عيناه على
رجلي ذلك الغريب، وبمجرد رؤيته لهما أطلق ساقيه
للريح متجاوزا الحجارة والشجيرات الملتفة بقفزات واسعة.
بعد فترة ليست بالقصيرة، وقف محاولا التقاط أنفاسه، تلفت حوله لم يجد أثرا لأي كائن،
بدأ في السير بخطوات واهنة، من بعيد ترآءت
له البئر التي مر بها في أول تجواله، عند اقترابه منها شاهد شخصين يجلسان عند فوهتها،
حاول طمأنة نفسه، أنهم من الأصدقاء، وبالتأكيد يجلبان الماء للمخيم ،عند نهاية تعليله،
كان قد وصل إلى حيث البئر والشخصين.
اقترب منهما، لم يكونا من أصدقائه، رحب
به القريب منهما متسائلا عن سبب لهاثه الشديد، صوب نظره على رجليه
، تنفس الصعداء فرجليه لم يكن فيهما ما يخيف
، بعد تسرب الاطمئنان إلى نفسه بدأ يسرد حكايته
: لقد ظهر لي ذلك الشخص، لم يكن فيه
ما يريب فقط رجلاه أحدهما تشبه رجل الـ.!.
قبل أن يكمل جملته بادره الأخر الذي كان
يتوارى عن ناظريه قائلا: مثل رجلي هذه ..! انطلق مجددا في الركض موطنا العزم على أن
لا يقف مهما كانت الأسباب.
رغم الإجهاد الشديد، إلا أنه غالب كل الأمور،
بعد مدة من الركض المتواصل
ظهر ضوء المخيم، زاد من سرعته ليجد نفسه عند مدخل الخيمة، دفع بنفسه وسط حشد الأصدقاء، تفحص أرجلهم، الاطمئنان
للنتيجة جعله يستغرق في غيبوبة لذيذة.
صباح اليوم التالي، أفاق على قهقهات الأصدقاء
وهم يتندرون بهلوسته ليلة البارحة، عن أشخاص
شاهدهم بأرجل كأنها أرجل الحمير.
طبرق في 18-8- 2001
البـــــراح
حركته دائبة في كل زوايا القفص
الصغير، الذي أبصر النور من خلال قضبانه، ولم يدر بخلده بأن هناك براحا أرحب من تلك الاتجاهات التي عرفها.
يبدأ يومه بنفش ريشه وتصفيفه و العناية
به، ينتظر حبات يلتقطها من وعاء قابع في قاع القفص، تضعها تلك اليد التي ألف وجودها
من خلال دخولها الدائب من تلك الفتحة، يرتشف
من الحين إلى الأخر قطرات من ماء القنينة الصغيرة على جانب القفص.
أما بقية يومه يقضيه مغازلا شريكة وجودة
في هذا الحيز، استمرت حياته على هذه الوتيرة،
لم يطرأ عليها جديد سوى احتجاب رفيقته في تلك الغرفة الخشبية الصغيرة الموضوعة أعلى
القفص من الخارج، محتضنة نتاج ألفتهما بين هذه القضبان، كان يصدر في بعض الأحيان شقشقات
حالمة، يعقبها بقفزات توصله إلى باب الغرفة
الخشبية، تستجيب لها شريكته في الحال، مادة رأسها الصغير ليلتقي منقاريهما في قبلة
حميمة تنتهي بلقيمات طرية يدفعها إليها بكل
حب، وتتقبلها بكل مودة.
في ذلك الصباح الجديد، تسللت اليد كعادتها
إلى داخل القفص واضعة حبات الطعام مكانها،
وتعرج على قنينة الماء لتملأها ،وكعادته دائما التجأ إلى أعلى
القفص مفسحا لها المجال لتقوم بعملها داخل بيته
الذي لا يمنع شيئا سوى خروجه منه.
خرجت اليد من المكان الذي دخلت منه ، بعد لحظات قفز من عليائه، وقف على القطعة
الخشبية، بدأ في التقاط حبات الطعام توقف بعد أن شعر بأمر غريب طرأ على وضع
مسكنه، فوعاء الطعام أصبح فوقه، وحباته تناثرت متخللة ريشه، مياه القنينة انتشرت رذاذا
في الأنحاء، رفيقة دربه تخلت عن حرصها الفائق وتحوم حوله في حركات مضطربة، محتويات
الغرفة تتبعثر حولهما.
قبل أن يستوعب ما حدث له ولمحيطه الصغير،
سكن كل شيء من حوله، بعد صوت ارتطام قوي لا عهد له به من قبل، هدوء غريب مزعج ساد بعد
تلك اللحظات، تطلع حوله محاولا فهم ما حدث،
وقعت عيناه على شريكته مُمدَّة على
أرض القفص، قفز ناحيتها، تعجب من سكونها الغريب، نقر على منقارها بحب بالغ، زاد تعجبه
من عدم استجابتها له.
قطع انهماكه في تفسير حالتها أصوات متداخلة
تقترب منهما، لم تكن نبراتها مألوفة لديه، حاول اللجوء إلى أعلى سطح القفص كعادته الدائمة ، فاجأه عدم وجود الحاجز الذي كان
يمنعه من الابتعاد أكثر من ذلك، انطلق ليجد براحا أوسع من براح بيته الصغير، الأصوات الغريبة تطارده بإلحاح، بدأت تحاصره
من عدة جهات، حاول الهروب فجاءت محاولته خليطا
بين الطيران والقفز.
الأصوات تَجدُ في طلبه، شعور بالتعب والذعر
يملأن نفسه وسط هذا الاتساع المخيف، أيادي كثيرة تحاصره لتمسك به، استطاع الافلات منها،
التجأ إلى فجوة بركن جدار، لحقته يد غليظة إلى داخل تلك الفجوة ، لم يسعفه حيز
المكان للهروب أكثر.
قبضت عليه تلك اليد، تذكر تلك اليد التي
طالما وضعت له الطعام دون أن تمسه، حاول مقارنة
شعوره الآن حيال تلك اليد، وهذه التي تقبض عليه في قسوة بالغة، شعر بحنين
بالغ لضيق براح القفز.
جسده الصغير يُعتصرْ، ينتفض لمقاومة عملية
الضغط ، قلبه يصعد إلى حلقه، خدر يسيطر على أعضاء جسده، مقاومته تضمحل، ويبدأ
احساسه بما حوله في الغياب.
طبرق 17-3-1998
تــــــــــرنح
الشارع تطبعه العتمة بكآبتها، الضوء الخافت
المنبعث من بعض المصابيح المتناثرة على طول الشارع، لا يؤثر في فرضها سيطرتها على
تضاريس المكان، أكياس تحوم في دوائر، ترتفع للحظات، ثم تعود للهبوط، وتنزلق على سطح
الشارع محدثة فحيحا متواصلا، عُلب فارغة تتدحرج مزعجة سكون الليل برنينها المتواصل،
لا أثر لأي مخلوق في ذلك الدرب.
من بعيد يظهر كشبح يغالب خطواته المترنحة،
يداه تعملان في كل الاتجاهات، لكي تجنبه الوقوع في مجرى المياه على جانب الشارع.
سهرته هذه الليلة طالت عن المعتاد ، وشرابها
لم يكن بجودة الأيام الخوالي ، والكمية التي عبها من هذه الخمر الرديئة الصنع كانت
أكثر مما تعود عليه، مع انتهاء جلسته تلك بدأ يشعر برأسه كأنها حجر وضعت عنوة فوق رقبته.
طوال سنوات معاقرته للخمر لم يعرف عنه في
محيط سكنه أو عمله، بأنه من أولئك الذين تلعب بهم النشوة، ويشتد بهم النزق، بل كان
كل ما يصدر عنه صمت عميق، ويكون همه الوحيد الإسراع لركن في غرفة، ويستغرق في نوم طويل،
وبعد صحوه منه يذهب كل أثر لها.
هناك شيء ما يدور في رأسه هذه الليلة، جعل
من شعوره يختلف عن كل ما جال في عقله سابقا، حالته المعتادة تغيب هذه المرة، ويرافقها
شعور مختلف يمنع صمته المعهود، ويدعوه بقوة للكلام، وربما لما هو أبعد من الكلام.
أنفق هذه الليلة كل ما معه من نقود وفرها
منذ شهور، واعدا أطفاله بشراء خروف العيد، وبعض الهدايا الأخرى، لكن هذه العادة الآثمة،
ومزاجه الرديء، انتصرا عليه وجعلاه ينكص عن توبته، ويعود لصحبته الذين لا يربط بينهم
أي رابط من ود سوى محبة تلك الساعات الماجنة، والتي بانقضائها تنقضي المودة الزائفة
بينهم، ويلعن كل منهم الآخر عند الاستيقاظ صباحا. هذه المرة بدأ في صب لعناته عليهم
مبكرا، دون أن ينتظر شروق الشمس، أو حتى تنجلي نشوة الخمر.
يواصل ترنحه في ذلك الشارع الطويل، لا أنيس
له في وحشة هذا الليل، إلا بعض الكلاب الباحثة عن ما يسد رمقها في صناديق القمامة،
ومن حين لآخر يثير انتباهه المشوش قفزة لقط فزع من أحد الصناديق .
رغم ثقل رأسه بفعل كؤوس الخمر الرديئة،
واستمرار نزقه وحياته التي لم تعرف الاستقرار كحياة الكثيرين ؛ ممن وصلوا إلى مرحلة
تماثل مرحلة عمره، وعدم اهتمامه لكل ما يثار عنه، إلا أن شيئا واحدا كان يجعل من بقايا
الانسان داخله تتحرك من الحين لأخر، إنهم أطفاله الذين استحوذوا على ركن في قلبه وعقله،
ولم تستطع نشوة أي نوع من الخمرة من أن تتغلب عليها .
تجاوز ذلك الشارع الطويل، دخل منطقة تفصله
عن سكنه، تغرق في ظلام حالك، منطقة تشتهر بمبانيها العشوائية القديمة، أغلب سكانها
من الوافدين لهذه البلدة لمختلف الأغراض، تنتشر بها بعض الورش والمعامل التي تقفل أبوابها
مبكرا.
شعر بسيطرة التعب على جسده من طول السير،
وشعور بالملل يتسرب إلى نفسه من طول المسافة المتبقية حتى منزله. توغل
لمسافة وسط مباني تلك المنطقة الساكنة حد الإزعاج، ازداد ثقل رجليه، وتلاحقت دقات قلبه،
وتهدجت أنفاسه.
لجأ إلى غرفة غير مكتملة البناء، فكر
في التقاط أنفاسه، وليحتمي بها من رياح تلك الليلة الخريفية، أسند ظهره للجدار، أغمض
عينيه لبرهة، غالبته رغبة في النوم، شعر بحركة قريبة منه، تفحص المكان، الظلام يعم
الأرجاء، داهمته رغبة بتدخين سيجارة، أخرج ولاعته وأشعل السيجارة، أدار الولاعة المشتعلة
في اتجاه مصدر الحركة، يا إلهي جدي سمين!! هتف في داخله، انه هدية من السماء ستخرجه
من ورطة سؤال الصغار.
دب النشاط في جسده المنهك ، انقض عليه بخفة
نمر، ثغى الجدي للحظات، تلمس أكوام الحجارة والأتربة حوله، وقعت يده على سلك معدني
، ربط رجليه بإحكام، جلس في مكانه يلتقط أنفاسه، وشعور مريح يرافقه في تلك اللحظات.
سيجارته التي أضاعها ساعة انقضاضه على فريسته
لا زالت تنبض ببعض الحياة الحارقة، زحفت أصابعه نحوها، امتص ما بقي منها من أنفاس بنشوة
بالغة، وعلى ضوئها الخافت لمح فريسته مكبلة أمامه، ردد داخله جدي أفضل من لا شيء .
لفظت السيجارة أخر أنفاسها، هاجس أوحى
بتأمل فريسته من جديد، أشعل الولاعة مرة ثانية، خُيل إليه أن ملامحه تغيرت، هز رأسه
كمن يحاول ابعاد شيء عنها، أعاد اشعال الولاعة مرة ثالثة، تخيل رأس الجدي كأنها رأس
كلب، خاطب نفسه هل عدت لمرحلة التهيؤات، وكأني لا زلت أتعلم شرب الخمر، أعاد اشعال
الولاعة، دقق النظر من جديد، شاهد عجلا بدل الجدي الذي ربطه منذ لحظات.
خاطب نفسه بصوت مسموع : اللعنة !! هل وصلت
رداءة هذا النوع الذي شربته إلى هذا الحد، تراجع للوراء وأسند ظهره للجدار، سمع عدة
أصوات متداخلة تصدر عن هذا الذي كان منذ لحظات جديا سمينا، أشعل الولاعة مرة أخرى،
تأكد هذه المرة أن جديه له قدرة على التصور بعدة أشكال.
هنا لعبت الخمرة برأسه وخاطبه قائلا : اسمع
تتحول إلى كلب أو إلى حصان أو حتى قرد، لن أتركك إلا يوم العيد جثة هامدة، أطفأ الولاعة
وأعادها إلى جيبه، مقتربا منه ليحمله.
قبل أن تصل يداه إليه سمع صوتا يكلمه :
هيه .. أنت ..انتظر.
من الذي يكلمني ؟
أنا..
ومن أنت ؟!
أنا الجدي الذي أوثقته.!
جدي يتكلم ! ما هذه الليلة اللعينة ؟. وأي
جنون شربته .!
لست جديا .
وماذا تكون إذا؟ جحشاً !
كلا .. لست حيوانا على الإطلاق .
لا تقل لي أنك إنسانا !
لست إنسان أيضاً !..
اللعنة .. أي شيء تكون أيها .. المتكلم
..!
أنا ابن زعيم الجان في هذه المنطقة !!
لم تعقد الدهشة لسانه، نشوة الخمر، تنقلب
إلى عناد واضح، رد عليه بعربدة السكر : زعيم
الجان ..! زعيم العفاريت ..! أنا وجدتك وشاهدتك جديا، ولن أتركك إلا مذبوحا أمام الصغار،
فهذا ما يهمني في أمرك.
إذا ما رأيك أن نعقد صفقة، تطلق سراحي،
وأعطيك من الذهب ما يغنيك، ويجعلك تذبح ألف خروف إذا أردت، نحن الجان نملك من الأموال
مالا تستطيع تصوره.
مالا أستطيع تصوره، هو أنك كما تقول جان،
وتملك كل هذه الأمور، وأراك الآن جديا، لا يستطيع الفكاك من أسره.
نحن معشر الجان لا نستطيع أن نظهر للبشر
بصورنا الحقيقية وظهرت على صورة الجدي لغرض معين، ولكن حظي العاثر جاء بك في طريقي،
وأنت أسرتني في هذه الصورة، وبالتالي لن أستطيع منها فكاكا إلا إذا حررتني أنت، وأعاهدك
إن أطلقتني أن تجد تحت وسادتك في الصباح ؛ كيسا مملؤة ذهبا.
تفاعلات ما قبل هذا اللقاء، والتعب الذي
حل به، وبقايا حالة النشوة سيطرت عليه في تلك اللحظات، وفي برهة من الزمن غاب فيها
لديه كل إحساس بحقيقة ما يحدث معه، امتدت يده وبدأ في فك السلك المعدني، ومع أخر عقدة
فكها شعر بحركة سريعة، أحدثت تيارا هوائيا ساخنا أمام وجهه، ليعود السكون يغلف المكان
.
اخرج ولاعته من جيب معطفه أدار بوهجها في
جميع الأنحاء، لم يشاهد شيئا حوله، أيقن في قرارة نفسه بسيطرة تهيؤات الخمر على تفكيره،
وأيقن بأنه لم يعد يقوى على تأثيرها.
قرر النوم في ذلك المكان، خلع معطفه، ووضعه
كوسادة تحت رأسه، وغاب كعادته في نوم عميق لم يقطعه إلا لفح أشعة الشمس لوجهه في الصباح،
تفحص المكان حيث بات ليلته، كان مجمعا لنفايات وقمامة تلك الناحية، لعن الخمرة، وصحبة
السوء، ولعن نفسه لبقائه أسيرا لهذه العادة اللعينة، وأعقب كل ذلك حالة من الشعور بالخزي
عندما تذكر أطفاله الصغار، وهم يواجهونه بالسؤال المعتاد، وحالهم وهم ينظرون لأطفال
الجيران الذين تتألق عيونهم فرحا في ذلك اليوم.
وقف، حمل معطفه بيده، كيس أحمر كان تحت
معطفه، بحركة لا ارادية وجده بين يديه، رنين قطع معدنية داخله، ماذا يمكن أن يكون فيه،
فتح الكيس، كادا وهج الشمس المنعكس على القطع، مع الشعور بالفرحة أن يذهبا ببصره وعقله،
ما هذا يا الهي؟ ذهب! عاد بذاكرته لحوار ليلة البارحة مع ذلك المخلوق ، هل يعقل هذا
.. تلفت حوله، ثم انطلق صوب منزله بخطوات أقرب للقفز مُمَنيًّا نفسه بعيد يختلف عن
كل الأعياد.
طبرق 17-6- 2005
وجــــوه
تتداخل الوجوه، ترتسم فوقها ابتسامات زائفة، تعتمل داخل
النفوس مشاعر متناقضة، تلهج الألسن بقناعات منمقة، يستميلك انفعالك الغريزي لتتوائم
معها أفعالك، تسري في كيانك قشعريرة الائتلاف.
ها هم ينكصون على أعقابهم، يتلمسون طريقهم نحو النور
المتوهج منذ الأزل، لقد أدركوا حقيقة الوهج
الذي قطعوا ملايين السنيين حبوا إليه كحشرات صيف غرها تلألؤه العظيم فعانقته انتحارا.
حبور عظيم يملأ نفسك ظانا أن لبنة الخير
تسكن أعماق كل النفوس، فقط المشاعر الباردة
تطلق سطوتها عليها، لتجعلها تهجد في قاعها منتظرة حرارة نور الحقيقة لتحرك ماء الحياة
ليندفع متدفقا في الشرايين، ليعلن بأن كل البشر تعتمل داخلهم نفوس خيرة.
تنتشي بانتصارك على كل هواجسك التي أرقت تفكيرك، ماسحا كل اعتراف داخلي
بأن معايير هذا الزمان لم تعد على قياس قناعاتك، تقتلع آخر حصن تختبئ وراءه أخر وسوسة
تدعوك للحذر.
حدسك يخبرك أن وراء هذا الهدوء عواصف هوجاء، قد تلقي بك في
بحور خدعيتهم المتلاطمة، تتململ، تحاول مناغمة شعورك مع غلاف الزمان والمكان،
تكبت كل ردة فعل مغايرة، تَكْتُمْ كل الأفواه الضاجة في أعماقك، تستميلك بقايا ثقة مترسبة
في قاع الحقيقة، تتفاعل داخلك صراعات جذب الدليل
الساطع، تحاول الافلات.
نظرة من داخلك لما أصاب خارجك، تقرأ في
أعماقك ما يرتسم على ملامحك، توقن بأن ما يظهر
على السطح، يناقض ما يعتمل داخلك، خطوط الملامح ليس لها جذور في أعماقك، تتمسك بأخر
خيط يتوهج في غسق حقيقتك ليوصلك لوجودك.
تدفعك بقايا سنا وهج صدق خافت ؛ لتنزع كل
الأقنعة التي ألصقوها بك، تبدأ في التخلص منها، تتفاجأ بأنك كلما تخلصت من احداها وجدت
آخر مكانه، تُعيد الكَرَّة وبقوة عن سابقتها، وتتكرر النتيجة.
تستمر رغم تسرب فتور التكرار لعزيمتك، تهدأ، تحاول
ادراك كنه اللحظة المرتسمة فوق كل الأقنعة
التي كومتها خلفك، تحاول فهم تفاصيل الخطوط المتجسدة عليها، تتلمس أخر الأقنعة على
وجهك، تحاول جاهدا نزعة، تنجح أخيرا، ترميه فوق كومة الأقنعة.
تبتهج للنتيجة، تتلمس تفاصيل وجهك، تتأكد
بأنه لم يعد هناك أي قناع يحجبه، تصدمك النتيجة فتضاريس وجهك لم تعد تختلف عن تفاصيل كل الأقنعة التي أزلتها.
طبرق 1-6-2005
الدائــــرة
أفاق مذهولا يحك وسط رأسه الخالي من الشعر
تقريبا محاولا استنتاج ما كان يريد فعله مباشرة عند استيقاظه من نومه.
لم يكن يبالي في بداية الأمر بنسيان الأسماء،
فهي تتكرر وبكثرة، فالاسم الواحد قد يحمله عشرات بل مئات البشر، ما جدوى الأسماء ؟
هكذا حدث نفسه.
ما دام لتلك الأسماء المنسية وجوه، فهي
اكثر جدوى في تحديد الاختلاف بين البشر، بالوجوه ستجد اختلافاً ولو ضئيلاً بينها، حتى
ولو كانت صورًا منسوخة عن بعضها، لا ضرر إذا من نسيان الأسماء، ما دامت لها وجوه تفي
بغرض تحديد الاختلاف، و هوية لكل إنسان تميزه عن غيره من البشر.
هكذا اقنع نفسه، أو أقنعته، ونتيجة لتلك
القناعة اصبح يرد بعبارات تخلو من الأسماء على كل الوجوه ؛ التي تبتسم له مؤكدة معرفتها
به، ما لم يكن في حسبانه هو اتساع دائرة النسيان لتطغى على اكتشافه الذي أوصله لهذه
القناعة المريحة.
بدأ الهلع و الخوف يحل محل السكينة و الطمأنينة،
التي سكنت نفسه لبعض الوقت، ومن جراء هذه الحالة الجديدة زحفت ضبابية غربية على الوجوه،
ماسحة عنها كل دليل يطبعها بطابع الاختلاف، و يوسمها كهوية لأصحابها، وأفقدتها بالتالي
إمكانية تحديد هوية أصحابها.
حاول يائسا إيجاد مخرج، ترآى له بصيص من
أمل في اختلاف الأماكن، لجأ إليه علة ينقذه مما هو فيه، تلك الدائرة اللعينة لم تتركه
يهنأ كثيرا بما وصل إليه، اتسعت اكثر وأكثر زاحفة على الأماكن التي يعرفها، ماسحة عن
تضاريسها كل اختلاف، جاعلة منها مكانا واحدا.
نهم الدائرة الغريبة طغى على حياته بقوة،
وأصبحت تُضيق الخناق على حالات صحوته لتجعلها قليلة ومتباعدة، لإنقاذ نفسه من حدة وطأتها
الخانقة، و كأمل الغريق في التعلق بأي شيء، ولو كان قشه، كتب في قصاصات ورق أهم خطوط
حياته اليومية التي يريد اتباعها ؛ منذ استيقاظه من نومه إلى خلوده إليه.
نتيجة فكرته كانت هزيمة محققة، فعند فتحه
لأي قصاصة من تلك الأوراق، يجد أن مضمونها لا يختلف عن بقيتها، لتتسع دائرة الغيبوبة
ونهمها اكثر فاكثر، ويستمرا في التهام حالات صحوته القليلة ليجعلاها نادرة الحدوث.
آخر حالات صحوته النادرة خطر له فيها الكتاب،
هرع إلى أول كتاب وجده في متناول يده، لم يعر العنوان اهتماماً، فكل العناوين لديه
عنوان واحد، ولم يتبين موضوع الكتاب، فكل المواضيع عنده متشابهة.
جملة واحدة بين عشرات الجمل المتشابهة تراءت
له باختلافها فأثارت بقايا ذاكرته المشوشة، وجعلت الحياة تدب في حنايا تفكيره المنهك،
واستدعت بصعوبة بالغة جزءا من تركيزه الذي فقده بسبب زحف هذه الدائرة الشرهة على مجمل
تفكيره، ومحوها لكل ما يحتفظ به، ويخزنه في ذاكرته.
تلك الجملة جعلته يقرأ ما بعدها بنهم غريب،
كان قد فقده منذ زمن طويل .. أولا .. ثانيا.. ثالثا… ستجد ذاكرتك عادت نشطة وتركيزك
أقوى مما كان.
هذا ما احتاجه، هتف في قرارة نفسه، فرح
داخلي بعودة الأسماء لموافقة الوجوه، والوجوه لتعبر عن حقيقة الأشخاص، و التضاريس المختلفة
تمنح الأمكنة تميزها.
غمرته السعادة، وضع الكتاب جانبا، ناويا
البداية في تطبيق ما وجده فيه من تمارين لتنشيط ذاكرته منذ الصباح الباكر، استغرق في
نوم عميق مريح، أفاق منه مذهولا يحك وسط رأسه الخالي تقريبا، محاولا استنتاج ما كان
يريد فعله مباشرة، عند استيقاظه من نومه.
انقشاع
مجرد حلم ..لن يستقر في حنايا الذاكرة الا
لبضع ساعات، دعه يوقظني من اعز لحظات غطيطي كل ليلة، لن أبالي بذلك ,كي لا يرسخ التصاقه
بجدار الذاكرة، استمرأ تلك التعليلات, وأيقن بجدوى تحليلاته لهوامش الموضوع.
اصاخ السمع لضجيج الصمت من حوله، دخل مرحلة
سيطرة اللاشعور، دوائر تتلوها دوائر، بانقشاع اخرها رأى شكله الخارجي يتجسد امامه لأول
مرة في حياته منتصبا وسط مركز تلك الدوائر التي تتوالى واحدة اثر اخرى.
عيناه كانت بعيدة عن ذلك التجسد, كانت تحوم
حوله كما (كاميرا) طائرة تضيف على المشهد مزيدا من الاثارة.
لم يثر مشاهدته لشكله الخارجي في نفسه اي
شعور، الدوائر يزداد عددها, شكله الخارجي يرتسم بوضوح اكثر، عيناه تواصلان التحليق،
شعر بانهما تحاولان الانقضاض داخله، شيء ما يمنعهما بقوة، تتداخل الدوائر، لم يعد يستطيع
تمييز عددها وحجمها، تَزْدَرِدْ المكان, وتستوعب الزمان، النتيجة صور باهتة الالوان،
غامضة التفاصيل.
امتداد من مكان الى لا مكان، تترسخ في اقنية
الذاكرة اضغاث احلام، تمتلك زمام الصحوة، جرد سيف مقاومته, حارب دوائر الوهم، رفعت
مقاوماته الرايات البيضاء، يركض شكله الخارجي امامه، عيناه الطائرتان تلحان في مطاردته،
يحاول الافلات كي لا تقتحمه من الداخل، يتوقف، شعور بالخزي يملأ نفسه، ادرك بعد فوات الاوان، بأنه لم يكن مجرد حلم.
الجانب الآخـــــر
الشارع يموج بأفواج البشر الذين تتداخل
ملامح وجوههم، مع الوان بشرتهم، وتنوع ملابسهم، وسط ضبابية هذا التداخل لمحت بصعوبة
وجه صديقي القديم.
ومع ان الصدف دائما, ليس من طبيعتها حسابات
لأبعاد الزمان ولا ضرورة فيها لتحديد المكان، فها هي تجمعني بصديقي القديم، بعد كل
هذه السنوات الطوال.
صحت بانفعال طفل حصل على ما يتمنى بعد طول
انتظار، هاتفا باسمه، وعبرت الشارع نحوه بذراعين مفتوحين.
منذ سفره, أو هروبه المفاجئ لم يقيّض لي
مشاهدته، حتى في تلك المرة الوحيدة التي قيل انه جاء فيها الى القرية في الهزيع الاخير
من احد ليالي الشتاء القارصة, ومغادرته قبل أن تلوح تباشير فجر تلك الليلة.
تلك الزيارة الغريبة، فجرت ألسنة الرجال
بمئات الاسئلة، واختلقت النساء الف حكاية وحكاية، وأصبح مجيئه وذهابه بتلك السرعة رواية
تلوكها الألسن في ليالي شتاء القرية الطويلة.
احتضنته بحرارة، نظرت الى وجهه مليا، تقاسيم
وجهه تعلوها سحنة باردة، لم تؤثر فيها حرارة اللقاء، سأل عن حالي وعن القرية, لهجته
كانت تسيطر عليها اللامبالاة.
اجبته عن اسئلته بسؤال الجميع، عن سر حضوره
السريع وعودته الاسرع تلك الليلة، أجابني بتعال لم اعهده فيه من قبل، طالبا مني عدم
الخوض في ذلك الامر, وان أنسى ذلك السؤال نهائيا، احسست بمرارة وغصة في حلقي، بدأت
أوقن بأنني الآن فقط قد أفقده وإلى الأبد، وفي لحظات انجلت لحظات الفرح بلقائه.
سألني وهو يضع ( سيجارته ) في جانب فمه
بطريقة ( سينمائية) الا زلت تتعب نفسك في القراءة والكتابة، الم تحاول دخول مجالات
تدر عليك مكسبا افضل بدل المتاعب التي تجنيها من مهنتك هذه.
حاولت تغيير دفة الحديث, وربما اردت استفزازه
قلت له : يبدو ان الامور تسير معك على احسن ما يرام, قل لي ماذا تعمل الان ؟
ضحك وكأن ما قلته لم يفاجئه, وربما لم يثر
اهتمامه، تجاوز سؤالي كعادته لسؤال آخر، أين تقيم في هذه المدينة؟.
جاء دوري لأضحك، وقلت له في أي بيت يعجبني,
هل نسيت ما يربط بين أهل هذه المدينة؟
تناسى اجابتي وسؤالي , ثم قال : ما رايك
بان تكون ضيفي في هذا الفندق، انه من ذوات الخمس نجوم، ثم اردف بلهجه تهكمية اقسم بان
معرفتك به لا تتعدى شكله الخارجي.
اعتذرت بلهجة يغلفها الحنق.
قال: اوصلك حيث تريد، اجبته بامتعاض، معي
سيارتي، واشرت الى حيث تربض، فقال بتأفف هذه !
استأذن بحجة موعد هام، ناولني من خلال نافذة
سيارته ورقة، ثم قال: هاتف المنزل والمكتب والنقال، كلها في هذا (الكرت) اذا
احتجت شيئا اتصل بي.
وقفت شاردا حيث تركني صديقي القديم، والذي
لم يتبقى منه سوى اسم وارقام في قصاصة ورقية، تقبض
عليها سبابتي وابهامي بغير حرص، وفي لحظة تراخت اصابعي عنها، فحملتها نسمة هواء خفيفة
حطت بها وسط بركة خلفتها مياه الامطار بين نهري الشارع.
انتشلني من استغراقي في تفسير ما حدث، تداخل صوت احتكاك اطارات سيارته بالشارع, مع ثغاء قطيع الماعز الذي كان يسوقه من امام بيتنا في القرية عند العودة كل مساء.
انتشلني من استغراقي في تفسير ما حدث، تداخل صوت احتكاك اطارات سيارته بالشارع, مع ثغاء قطيع الماعز الذي كان يسوقه من امام بيتنا في القرية عند العودة كل مساء.
اقتنــــــاع
شكرا يا حاج، عبارة كنت اسمعها كما كنت
أقولها عرضا، لم تكن تعني عندي أكثر من إنها تقال تبجيلا للبعض واحتراما للبعض الأخر،
كما إن البعض يسعدهم أن تقال لهم بعد أن يستطيعوا إلى بيت الله سبيلا.
لم اشعر يوما بأنها عبارة قد تجرح مشاعر
أي إنسان، حتى الذي لم يقيض له أداء الفريضة كان في اعتقادي تسعده تلك التسمية، أما
لوجاهة اجتماعية أو لكبر السن.
اليوم فقط شعرت بان لهذه الكلمة وقعا أخر
على النفس، يختلف عن ما كنت أتصوره تجاه هذه الكلمة، سواء عندي نطقي بها، أو سماعي
لها، شعرت بهذا الإحساس الغريب عندما عبر لي ذلك الشاب عن امتنانه ( شكرا يا حاج )،
لا ادري لماذا شعرت بتوجس وخيفة عندما وجهت هذه الكلمة إلى شخصي مباشرة، وليبدأ داخل
نفسي كم من الأسئلة يتدفق بدون توقف، هل وصلت إلى مرحلة من العمر متأخرة إلى كل هذا
الحد ؟ هل ما كنت أسوقه من تعاليل لما أراه من تغيير في ملامحي مؤخرا هي مجرد أوهام
؟ .
هل قناعتي بأن ما حل بي ماهر إلا من ضغوط
الحياة التي جعلت الرأس يشتعل شيبا، وما حل ببصري من وهن اضطرني لاقتناء نظارة أوصى
بها طبيب العيون، والذي أرجعت سببه لإدماني عادة القراءة . حتى وقوفي بصعوبة أعدته
إلى نوع العمل الذي أمارسه واعتمادي الكلي على السيارة في حلي وترحالي، هل هذه
القناعات ذهبت أدراج الرياح؟.
كلا .. كلا .. لازلت أملك بين جوانحي قلبا
نابضا بروح الشباب، وهي ربما أكثر شبابا حتى من هذا الذي نعتني بهذه الصفة، والذين
أصبحت عندهم الكلمات عندهم تعبر عن معاني لا تمثلها، إنهم جيل فقد الإحساس بكل ما حوله،
بما فيه الإحساس بشعور الآخرين.
حالة اللاشعور التي أصابتني جراء سماعي
لتلك الكلمة جعلتني أعود أدراجي إلى حيث تركت سيارتي، فتحت ألباب، جلست على المقعد،
عدلت من وضع المرآة، رحت أتأمل تقاسيم وجهي، وأعد الشعرات السوداء الصامدة وسط غابة
الشعر الأبيض، تجاعيد حول العينين، تغضن وسط الجبهة، هل يكون ذلك الشاب يعني بكلمته،
ما أشاهده الآن من إمارات الزحف نحو الشيخوخة.
حالة من الصمت الداخلي، أعقبتها كلمات لم
أكن أتوقع بأنني سأسر بها حتى بيني وبين نفسي، وماذا في ذلك ؟ هل سأظل شابا طول العمر
؟ إنها محطات، لابد أن نقف في كل واحدة منها ما شاء لنا الله الوقوف فيها، نحن فقط
من يستطيع أن يجعل من كل محطة من تلك المحطات، عامرة بدفق الحياة، وكأننا في أوج شبابنا
دائما.
أدرت محرك السيارة وأطلقت لها العنان صوب
البيت، ولا تزال تفاعلات المشهد الأخير مرتسمة في الذاكرة بقوة، وتعاندها أفكاري بين
إنكار تام، وبين جنوح بالقناعة بما يمر به الإنسان.
تحركت يدي بحركة آلية أخرجت بها مفاتيح
المنزل لأجد الصغار متحلقين حول التلفاز، وبمجرد أن شاهدوني تركوا تحلقهم ذاك ولأخذ
أنا مركز الاهتمام، كل منهم يطلب شيئا خاصا، أو يطرح مشكلة ما، وأنا أصغي بانتباه خال
من التركيز.
لفت انتباهي الصغير فيهم، فهو على غير عادته
لم يكن مهتما لوجودي، كان تركيزه منصبا على صندوق صغير، يضعه بين الفينة والأخرى أمام
عينيه، مركزا على فتحة صغيرة به .
رمقني بنظرة باسمة، أسرع الخطى ناحيتي،
ليتعلق بظهري، ويمد يديه الصغيرتين حول عنقي، ويضع فتحة الصندوق الصغير على عيني، ويأمرني
أشاهد من خلالها.
أذعنت له ووضعت الصندوق حيث طلب مني،
ويأتي صوته العذب سائلا : أبي ماذا ترى ؟ قلت : آه بيت الله يا صغيري.!! قال بتعجب
بيت الله ..! استدركت الحج يا صغيري .
نزل من على ظهري، وجلس قبالتي، وفاجأني
بسؤال أخر : أبي لماذا لا تذهب إلى الحج ؟ ودون أن يترك فرصة للإجابة قال :
سوف تجلب لي هدايا من هناك، وسيقول لك الجيران
بعد العودة مرحبا يا حاج، شعرت بعد كلمات الصغير بهدوء وسكينة، وأجبته وابتسامة
صادقة تملأ جوانحي، إن شاء الله قريبا يا بني .
تطـــــــابق
فجأة وبدون مقدمات وجدته أمامي، أو تواجدت
أمامه لم أعد أتذكر الأن، كل ما أستطيع تذكره هو وجودي معه وجها لوجه، لم يكن وجود
أي منا في مواجهة الآخر هو مدعاة الحيرة والقلق في تلك اللحظات، بل ما حدث من اكتشاف
لأمور من المستحيل أن تحدث في كل مرة يقابل فيها انسان انسانا ما ؛ يتوافق معه في بعض
الامور.
كان يمتلك نفس سحنة الوجه، طوله يماثل طول
قامتي، لون شعره مثل لون شعري، حتى انه سرحه على شاكلة تسريحتي لشعري، لم يكتف بذلك
فقط، بل وصل الى مشاركتي في امر أكثر خصوصية وهو اختياره لملابسة بذوق لا يختلف في
شيء عن ذوقي، بل وأمعن في تقليدي حتى في طريقة لبسي.
بدأت تأمله بفضول واستغراب، ظهرت على وجهه
علامات تشي بنفس المشاعر، حدقت في وجهه مليا علني أجد نقطة اختلاف بيننا ولكنني لم
احصد الا الفشل، فكان الامتعاض هو ما سيطر على احاسيسي، وايقنت أن ذلك الشعور كان يعتمل
داخله في تلك اللحظات.
احساس مليء بالحيرة والقلق، ومحاولة تفسير ظهور هذا
الشخص أمامي، متوافقا معي في كل شيء، مع استمرار الوقت واستمرار تواجدنا معا، بدأ السأم
يحل محل القلق والحيرة من هذا التواجد وقرأت نفس الشعور منعكسا على صفحة وجهه.
لا أستطيع أن أجزم بأن شعور كراهية تسرب
لنفسي تجاه هذه الشخصية، كما أن مشاعر المودة لا تظهر في مثل هذه المواقف بدأت بعد
ذلك فكرة البحث عن حقيقة تلك الشخصية، والأسباب التي جعلتها تقف في وجهي دون سابق موعد،
تداخل الأمور الغريبة منذ التقائي به، جعلني أنسى بعض من التفاصيل المهمة التي اعتدت.
في لحظة انجلاء الدهشة، تذكرت بأنني عادة
عندما أنظر نظرة استغراب أو حيرة أو قلق، أرفع حاجبي ألأيسر بحكم العادة، وهو ما فعلته
في تلك اللحظة، وكعادته في محاكاتي في حركاتي وسكناتي رفع حاجبه أيضا، ولكن هذه المرة
لم يكن حاجبه الأيسر بل ألأيمن، تحسست حاجبي بيدي اليمنى، ففعل نفس الأمر، ولكن بيده
اليسرى.
لأول مرة منذ وجودنا معا، لم أنتظر لأتبين
ردة فعله, ادركت حقيقة الشخصية المتواجدة أمامي، والتي تطابقت مع شخصي لحد التطابق،
غادرت الغرفة، وانسحبت من أمام المرآة، وابتسامة ظلت لساعات ذلك النهار مرتسمة على
مُحيَّاي.
العــــــودة
سحب جسده بتثاقل من تحت الغطاء ؛ في ذلك
الصباح الشتائي القارص، بعد أن انزل قدميه إلى أرض الغرفة بتعامد مع حافة السرير، حاول
أن ينهض، شعر بعد نجاح محاولته بان رجليه تحملان جبلا عظيما، وليس جسده الذي كان بالأمس
القريب تحملانه بكل راحه.
جر جسده الجبل بتؤدة متلمسا طريقه إلى غرفة
الحمام، وبعينين شبه مغمضتين، تلمس بيديه حوض الغسيل، وصلت احدى يديه إلى صنبور المياه،
أدار مفتاح الصنبور تدفق الماء الساخن للحظات أقفل صنبور المياه.
أعاد فتحه ثانية، ولكن بماء شبه مثلج، ارتاح
لانسكابه وبرودته الشديدة، اغترف غرفات سريعة، رش بها وجهه، تراءت له فكرة سريعة، لماذا
لا يضع راسه تحت دفق المياه الباردة؟.
ربما تساعده على رفع غشاوة الصباح عن عينيه،
مع انسكاب المياه على رأسه شعر بتسرب صحوة لذيذة إلى أوصال جسده المنهك، بدأت عيناه
تدركان كنه اللحظة المحيطة به، أجال بصره في أركان الغرفة.
وقع نظرة على المرآة الرابضة أعلى الصنبور، كان يغشو
سطحها اللامع ضباب كثيف، مد يده بأصابع مفتوحة ماسحا سطحها ؛ ليطل عليه وجهه من خلال
سطحها اللامع المتداخل مع خطوط الضباب ؛ التي لم تطالها عملية المسح.
استولى على عقله في تلك اللحظات كم من العجب
لمرأى وجهه وكانه يراه للمرة الأولى منذ مدة طويلة، هاهي الشعيرات البيضاء تزحف على
تضاريس وجهه، ولم تترك للشعر الأسود الا نقاطا قليلة متناثرة على سطح وجهه.
صرف تفكيره عن مرأى وجهه، إلى محاولة تفسير
الحالة التي وجد نفسه عليها هذا الصباح، تذكر بسرعة أخر ما سمعه ليلة البارحة، ورنت
في أذنيه أصداء الاجتماع العائلي المستديم في الآونة الأخيرة، والذي في كل مرة لا يخرج
محور النقاش فيه عن أسباب بقائه هكذا دون سائر اقرانه .
كان في كل مرة يسرد لهم نفس الاسباب والتعليلات،
ليضرب بها عرض الحائط، ومع أول لقاء عائلي يعود نفس السؤال، ويعيد عليهم ما سمعوه سابقا،
في حلقة مفرغة تتكرر باستمرار.
بمرور الأيام أصبح يئن عقله تحت نير
السؤال، ويزيد نحول جسده، مع هموم الحياة المختلفة، بدأت خطوط الضباب تنجلي عن سطح المرآة.
صور شتى تتداخل على سطحها، لتحيلها لشاشة مرئية تعرض مشاهد متلاحقة ؛ من شريط حياته
المختلف التفاصيل ،قادته تلك المشاهد إلى بدايات حياته
العملية، تذكر الحماس الهائل الذي كان يملأ نفسه ؛ عندما استلم أول مهام عمله.
تعجب من ورود مشاهد لزملائه، ومواقفهم منه
الغير مبرره، حاول أن يمد حبال الود تجاههم، لم يرفضوا، لكنه اضطر إلى قطعها مجبرا،
بعدما تبين له أهدافهم التي لا تتوافق مع ما يسعى اليه.
حاولوا استدراجه إلى صفوفهم بكل ما يستطيعون،
ولكنه ازداد صلابة في الابتعاد عنهم ، توقف تسلل المشاهد، عاد السؤال يرن بقوة في داخله.
عاد لتأمل وجهه الذي اصبح كمرج مغطى بنتف
الثلج، قارن حياته بحياة اقرانه وزملائه في العمل، شعر بالفارق في المعيشة بينه وبينهم، ساوره
قلق غريب، ومرارة غزت مشاعره للحظات، تراءت له شخصيات المشاهد التي مرت به على سطح
المرآة، وكأن جميع شخوصها تخرج له السنتها، وتناهت إلى سمعه قهقهات ساخرة من قناعاته
التي أبقته على حاله تلك.
نزع المرآة من على الجدار، منتويا رميها
كيفما اتفق، انقشعت جميع الصور الباهتة ولتبرز بقوة صورة مشرقة كانت تختفي وراء تلك
الصور ، صورة الزميلة الجديدة في العمل، التي صدت كل محاولات التقرب اليها من الجميع،
وكيف انهم ازدادوا كرها له جراء معاملتها له بود خاص.
أعاد المرآة إلى سابق عهدها، تناول أدوات
الحلاقة، أزاح نتف الثلج عن وجهه، شعر بنشاط غريب يملأ نفسه، انطلق إلى عمله متذكرا
أول يوم استلم فيه مهام ذلك العمل.
تهــــاويم
وابل من تقريع حفظه عن ظهر قلب، ورغم اعترافه
الضمني بواقعية ما يسمعه من ألفاظ تطرق مسمعه مع بزوغ شمس كل نهار إلا أن تكرارها المستمر،
اكسب مشاعره مناعة ضد تأثيراتها الجانبية، وافرغ كل محتوى لتلك الكلمات، وبالتالي لم
تصل إلى هدفها، ويزداد التصاقا بسريره واضعا وسادته على أذنيه، متجنبا أي أمر يبعده
عن لذة الشعور المرافقة لهذه الحالة، التي تعقب ثورة البركان الصباحي.
ازدادت هجمة العبارات الموجهة إليه، وتزداد
معها دفاعاته صلابةً وتصل مشاعره إلى مرحلة من الصلادة، تنعكس على سطحها الجليدي كل
حرارة المحاولات ؛ التي تفنن أصحاب تلك العبارات في اختيارها .
انهض أيها الكسول.. أنت لا تصلح لشيء
..كل مخلوقات الله نهضت .. إلى متى تظل تعتمد علينا في كل شيء .. ماذا ستجني من حبك
البغيض للنوم .. حظنا العاثر جعل منك ابننا.
في تلك الليلة قرر أن يفاجئهم بنهوضه باكرا،
بل قرر أن يسبقهم جميعا، وربما سيقرع عليهم الأبواب ليرى ردة فعلهم تجاه هذا الأمر
الجديد، وكيف يستوعبون هذه المفاجئة التي لم تخطر لهم على بال، ادار الأمر من جميع
اوجهه، مصمما على تنفيذ ما اعتزم عليه مع تسلل أشعة الشمس الأولى عبر النافذة.
لم يسحب الغطاء على رأسه، تركه على الجزء
الأسفل من جسده ليترك الفرصة لخيوط الضوء مداعبة عينيه، ولمساعدته على النهوض باكرا.
في الصباح شعر بملامسة الضوء المتسلل عبر
النافذة لجفنيه، بصعوبة بالغة حرك جسده المنهك بحكم تعوده على السهر المستمر، شعر بالارتياح لنجاح محاولته في النهوض.
حاول إنزال رجليه من على السرير ليخطو اولى
خطواته في هذا الصباح المختلف عن كل صباح سابق له، وسينفذ ما رسمه ليلة البارحة في
ذهنه.
قبل أن تلامس رجليه ارض الغرفة، طرق عنيف
على باب الغرفة أعقبه وابل التقريع المعتاد، ارجع رجليه إلى سطح السرير، سحب الغطاء
على وجهه مستغرقا في النوم من جديد.
طبرق في 25- 5 – 2001
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
شكـرا لمشـاركتنا برأيـك