قـراءة نقدية للناقد الليبي
عبدالحكيم المالكي في نص الدائرة، الذي نشر لأول مرة عام 1993
تنطلق القسريات الجانبية، لبطل نص
الدائرة للكاتب والقاص عبدالعزيز الروَّاف وهي تفرض علي شخصية البطل ،مزاجها وتكهناته
أو أفاقها الراغبة في الانفلات من صخب الحياة وصخب المعيش، تلك القسريات التي تتنفس
في أعماقنا كلنا وفي ذواتنا راغبة في فصلنا في لحظات تجرد إنساني عن محيطنا عن معيشنا
،أنه حلم الذات بالانسلاخ عن المعيش المعتاد لعوالم تبدو لها اكثر رحابة فتمارس عبر
تلك الحجوزات المغلقة عن الذوات الضعيفة الأبواب لتعود بها لعالم الوحدة الجميل.
تتنفس هناك في أفاق اللاإدراك نفس الوجود الممتد
،مستفيدة من تلك المشاعر المندسة في تلك النفوس المختنقة من وطأة الوجوه المحيطة ،تلك
الوجوه المتنفسة وذات الفتحات الناطقة والمرددة لأصوات سمجة اللامفهومة وغير مرغوب
فيها.
إنها حالة من الهوس بالابتعاد أيها السادة
،ألا تفهمون ألا تدركون أنه أحد مملوك الأرض الراغبين كنتيجة الاندلاق إدراكي للتقوقع
هناك في العدم بعيدا عن كل الهراءات ،ألا تعلمون أنه راغبا في التمدد بعيدا عن كل التنافسات
العفنة ،عن كل الوجوه الكالحة أو الجميلة ،ألم تشعرون بما يجول في ذهنه ،تلك القوي
الخفية من الانشداه التي تشده في لحظات وعيه الخارق لعوالمه.
أليس هو الأنسان ذاته بجمال فعل الإدراك الرهيب،
وقد وصل إلي الحقيقة الكبرى، ألا يبدو لكم ذلك، الإدراك هو حالة من الوعي خارقة بالطبع،
انتم لا تعلمون، لا تدركون ،فقط تلتقون، وتأكلون وتنامون، ولكن لا تعلمون كم يعاني
هو، كم يدرك من حقائقكم المرسومة علي وجوهكم ومن طباعكم المنثورة هنا وهناك.
ولهذا كله رفضكم، رفض حضوركم، فهو لا يستطيع
نفيكم، لا يستطيع إفناءكم، أو إنهاءكم، أو الابتعاد عنكم، صدقوني حتى الكلمات المعبرة
عن الهلع والرغبة في العودة إليكم، غير حقيقية ، هو لا يريدكم ،ألا تفهمون ، لقد أنكسر
علي رأسه الخالي من الشعر مئات المصائب كلها بسببكم، ألا تدركون أنه مأزوم من تواجده،
مأزوم قرر الابتعاد، ولذلك هو بغلقه لتلك الدائرة، نفاكم خارجها.
تلك حقيقة ما توارد في ذهني، وأنا أقرأ
قصة عبد العزيز الرواف "الدائرة" ،القصة التي برغم ظاهر حكيها علي لسان الغيبة،
إلا إنها تقترب كما قال المبدع محمد الأصفر بأنها "قصة ذهنية من نوع المونولوج
الداخلي" والحقيقة، أنني أشعر دائما بالحاجة، قبل كل عملية نقدية إلي سماع قراءات
المبدعين، لأنها وهي تخرج من ألسنتهم، تخرج عبر طبيعة إدراكية للتكون القصصي.
الدائرة قصة التيار ليست من نوع المونولوج
الداخلي بمعناه التقليدي، لكنها لو دققنا النظر في تفاصيلها، لوجدنا فيها ذلك النوع
من القصص التي تنتمي إلي حد ما لتيار الوعي والمسرودة بضمير الغيبة، ونظرا لأن قصص
تيار الشعور والتوارد الذهني، يسير نهر تسلسلها غالبا عبر الأنا الحاكية في مونولوج
يتميز بانفتاحه، وعدم توتره وهو ما يترك الفرصة للذات المنطلقة لتخرج كل ترسباتها الداخلية
مهما كانت قبيحة أو عميقة عبر انسلاخ للوعي عن توتر الحضور.
وبالنظر إلي قصة الدائرة أجد فيها توتر
دالق لكم من المعاناة الداخلية، مال في أغلب أنحاء النص ليكون تيار توارد للوعي، حدَّ
من توارده واستمراره إلي حد ما تلك الرغبة المتأصلة في الالتزام السطحي للبطل بمحاولات
العودة إلي المعيش العادي، والحقيقة هي أنه هو من رفض الأخر، وتجعل مثل هذه المثاليات
الفكرية التي يحاول القاص أن يجعله من خلالها بطلا إيجابيا غير مرفوضا من القراء،
كادت أن تفسد عليه نزعة التفرد الجميل نزعة المكوث البعيد والانزواء، والتي يتحقق عبرها
ذلك الاندلاق المستمر لنهر الشعور المتهاطل، لدي القاص والبطل عبر لحظة من اجمل لحظات
الامتزاج الإنساني، حين يؤسسان معا امتدادا للثقافة الجمعية الإنسانية مسطرا في أحرف
مكتوبة .
قد لا يكون حقيقة هذا ما اراده القاص تحديدا،
لكنه حالة من التوله لديه ونزعة في جعل بطله يميل ليصبح بهذا الشكل.
نص الدائــــرة
نص الدائــــرة
أفاق مذهولا يحك وسط رأسه الخالي من الشعر تقريبا محاولا استنتاج ما كان يريد فعله مباشرة عند استيقاظه من نومه.
لم يكن يبالي في بداية الأمر بنسيان الأسماء، فهي تتكرر وبكثرة، فالاسم الواحد قد يحمله عشرات بل مئات البشر، ما جدوى الأسماء ؟ هكذا حدث نفسه.
ما دام لتلك الأسماء المنسية وجوه، فهي اكثر جدوى في تحديد الاختلاف بين البشر، بالوجوه ستجد اختلافاً ولو ضئيلاً بينها، حتى ولو كانت صورًا منسوخة عن بعضها، لا ضرر إذا من نسيان الأسماء، ما دامت لها وجوه تفي بغرض تحديد الاختلاف، و هوية لكل إنسان تميزه عن غيره من البشر.
هكذا اقنع نفسه، أو أقنعته، ونتيجة لتلك القناعة اصبح يرد بعبارات تخلو من الأسماء على كل الوجوه ؛ التي تبتسم له مؤكدة معرفتها به، ما لم يكن في حسبانه هو اتساع دائرة النسيان لتطغى على اكتشافه الذي أوصله لهذه القناعة المريحة.
بدأ الهلع و الخوف يحل محل السكينة و الطمأنينة، التي سكنت نفسه لبعض الوقت، ومن جراء هذه الحالة الجديدة زحفت ضبابية غربية على الوجوه، ماسحة عنها كل دليل يطبعها بطابع الاختلاف، و يوسمها كهوية لأصحابها، وأفقدتها بالتالي إمكانية تحديد هوية أصحابها.
حاول يائسا إيجاد مخرج، ترآى له بصيص من أمل في اختلاف الأماكن، لجأ إليه علة ينقذه مما هو فيه، تلك الدائرة اللعينة لم تتركه يهنأ كثيرا بما وصل إليه، اتسعت اكثر وأكثر زاحفة على الأماكن التي يعرفها، ماسحة عن تضاريسها كل اختلاف، جاعلة منها مكانا واحدا.
نهم الدائرة الغريبة طغى على حياته بقوة، وأصبحت تُضيق الخناق على حالات صحوته لتجعلها قليلة ومتباعدة، لإنقاذ نفسه من حدة وطأتها الخانقة، و كأمل الغريق في التعلق بأي شيء، ولو كان قشه، كتب في قصاصات ورق أهم خطوط حياته اليومية التي يريد اتباعها ؛ منذ استيقاظه من نومه إلى خلوده إليه.
نتيجة فكرته كانت هزيمة محققة، فعند فتحه لأي قصاصة من تلك الأوراق، يجد أن مضمونها لا يختلف عن بقيتها، لتتسع دائرة الغيبوبة ونهمها اكثر فاكثر، ويستمرا في التهام حالات صحوته القليلة ليجعلاها نادرة الحدوث.
آخر حالات صحوته النادرة خطر له فيها الكتاب، هرع إلى أول كتاب وجده في متناول يده، لم يعر العنوان اهتماماً، فكل العناوين لديه عنوان واحد، ولم يتبين موضوع الكتاب، فكل المواضيع عنده متشابهة.
جملة واحدة بين عشرات الجمل المتشابهة تراءت له باختلافها فأثارت بقايا ذاكرته المشوشة، وجعلت الحياة تدب في حنايا تفكيره المنهك، واستدعت بصعوبة بالغة جزءا من تركيزه الذي فقده بسبب زحف هذه الدائرة الشرهة على مجمل تفكيره، ومحوها لكل ما يحتفظ به، ويخزنه في ذاكرته.
تلك الجملة جعلته يقرأ ما بعدها بنهم غريب، كان قد فقده منذ زمن طويل .. أولا .. ثانيا.. ثالثا… ستجد ذاكرتك عادت نشطة وتركيزك أقوى مما كان.
هذا ما احتاجه، هتف في قرارة نفسه، فرح داخلي بعودة الأسماء لموافقة الوجوه، والوجوه لتعبر عن حقيقة الأشخاص، و التضاريس المختلفة تمنح الأمكنة تميزها.
غمرته السعادة، وضع الكتاب جانبا، ناويا البداية في تطبيق ما وجده فيه من تمارين لتنشيط ذاكرته منذ الصباح الباكر، استغرق في نوم عميق مريح، أفاق منه مذهولا يحك وسط رأسه الخالي تقريبا، محاولا استنتاج ما كان يريد فعله مباشرة، عند استيقاظه من نومه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
شكـرا لمشـاركتنا برأيـك