27‏/9‏/2016

دراســات نقــــدية



    قـراءة نقدية للناقد الليبي 
عبدالحكيم المالكي 
في نص الدائرة


تنطلق القسريات الجانبية، لبطل نص الدائرة للكاتب والقاص عبدالعزيز الروَّاف وهي تفرض علي شخصية البطل ،مزاجها وتكهناته أو أفاقها الراغبة في الانفلات من صخب الحياة وصخب المعيش، تلك القسريات التي تتنفس في أعماقنا كلنا وفي ذواتنا راغبة في فصلنا في لحظات تجرد إنساني عن محيطنا عن معيشنا ،أنه حلم الذات بالانسلاخ عن المعيش المعتاد لعوالم تبدو لها اكثر رحابة فتمارس عبر تلك الحجوزات المغلقة عن الذوات الضعيفة الأبواب لتعود بها لعالم الوحدة الجميل.
 تتنفس هناك في أفاق اللاإدراك نفس الوجود الممتد ،مستفيدة من تلك المشاعر المندسة في تلك النفوس المختنقة من وطأة الوجوه المحيطة ،تلك الوجوه المتنفسة وذات الفتحات الناطقة والمرددة لأصوات سمجة اللامفهومة وغير مرغوب فيها.
إنها حالة من الهوس بالابتعاد أيها السادة ،ألا تفهمون ألا تدركون أنه أحد مملوك الأرض الراغبين كنتيجة الاندلاق إدراكي للتقوقع هناك في العدم بعيدا عن كل الهراءات ،ألا تعلمون أنه راغبا في التمدد بعيدا عن كل التنافسات العفنة ،عن كل الوجوه الكالحة أو الجميلة ،ألم تشعرون بما يجول في ذهنه ،تلك القوي الخفية من الانشداه التي تشده في لحظات وعيه الخارق لعوالمه.
 أليس هو الأنسان ذاته بجمال فعل الإدراك الرهيب، وقد وصل إلي الحقيقة الكبرى، ألا يبدو لكم ذلك، الإدراك هو حالة من الوعي خارقة بالطبع، انتم لا تعلمون، لا تدركون ،فقط تلتقون، وتأكلون وتنامون، ولكن لا تعلمون كم يعاني هو، كم يدرك من حقائقكم المرسومة علي وجوهكم ومن طباعكم المنثورة هنا وهناك.
ولهذا كله رفضكم، رفض حضوركم، فهو لا يستطيع نفيكم، لا يستطيع إفناءكم، أو إنهاءكم، أو الابتعاد عنكم، صدقوني حتى الكلمات المعبرة عن الهلع والرغبة في العودة إليكم، غير حقيقية ، هو لا يريدكم ،ألا تفهمون ، لقد أنكسر علي رأسه الخالي من الشعر مئات المصائب كلها بسببكم، ألا تدركون أنه مأزوم من تواجده، مأزوم قرر الابتعاد، ولذلك هو بغلقه لتلك الدائرة، نفاكم خارجها.
تلك حقيقة ما توارد في ذهني، وأنا أقرأ قصة عبد العزيز الرواف "الدائرة" ،القصة التي برغم ظاهر حكيها علي لسان الغيبة، إلا إنها تقترب كما قال المبدع محمد الأصفر بأنها "قصة ذهنية من نوع المونولوج الداخلي" والحقيقة، أنني أشعر دائما بالحاجة، قبل كل عملية نقدية إلي سماع قراءات المبدعين، لأنها وهي تخرج من ألسنتهم، تخرج عبر طبيعة إدراكية للتكون القصصي.
الدائرة قصة التيار ليست من نوع المونولوج الداخلي بمعناه التقليدي، لكنها لو دققنا النظر في تفاصيلها، لوجدنا فيها ذلك النوع من القصص التي تنتمي إلي حد ما لتيار الوعي والمسرودة بضمير الغيبة، ونظرا لأن قصص تيار الشعور والتوارد الذهني، يسير نهر تسلسلها غالبا عبر الأنا الحاكية في مونولوج يتميز بانفتاحه، وعدم توتره وهو ما يترك الفرصة للذات المنطلقة لتخرج كل ترسباتها الداخلية مهما كانت قبيحة أو عميقة عبر انسلاخ للوعي عن توتر الحضور.
وبالنظر إلي قصة الدائرة أجد فيها توتر دالق لكم من المعاناة الداخلية، مال في أغلب أنحاء النص ليكون تيار توارد للوعي، حدَّ من توارده واستمراره إلي حد ما تلك الرغبة المتأصلة في الالتزام السطحي للبطل بمحاولات العودة إلي المعيش العادي، والحقيقة هي أنه هو من رفض الأخر، وتجعل مثل هذه المثاليات الفكرية التي يحاول القاص أن يجعله من خلالها بطلا إيجابيا غير مرفوضا من القراء، كادت أن تفسد عليه نزعة التفرد الجميل نزعة المكوث البعيد والانزواء، والتي يتحقق عبرها ذلك الاندلاق المستمر لنهر الشعور المتهاطل، لدي القاص والبطل عبر لحظة من اجمل لحظات الامتزاج الإنساني، حين يؤسسان معا امتدادا للثقافة الجمعية الإنسانية مسطرا في أحرف مكتوبة .
قد لا يكون حقيقة هذا ما اراده القاص تحديدا، لكنه حالة من التوله لديه ونزعة في جعل بطله يميل ليصبح بهذا الشكل.
                                    
                نص الدائــــرة

أفاق مذهولا يحك وسط رأسه الخالي من الشعر تقريبا محاولا استنتاج ما كان يريد فعله مباشرة عند استيقاظه من نومه.
لم يكن يبالي في بداية الأمر بنسيان الأسماء، فهي تتكرر وبكثرة، فالاسم الواحد قد يحمله عشرات بل مئات البشر، ما جدوى الأسماء ؟ هكذا حدث نفسه.
ما دام لتلك الأسماء المنسية وجوه، فهي اكثر جدوى في تحديد الاختلاف بين البشر، بالوجوه ستجد اختلافاً ولو ضئيلاً بينها، حتى ولو كانت صورًا منسوخة عن بعضها، لا ضرر إذا من نسيان الأسماء، ما دامت لها وجوه تفي بغرض تحديد الاختلاف، و هوية لكل إنسان تميزه عن غيره من البشر.
هكذا اقنع نفسه، أو أقنعته، ونتيجة لتلك القناعة اصبح يرد بعبارات تخلو من الأسماء على كل الوجوه ؛ التي تبتسم له مؤكدة معرفتها به، ما لم يكن في حسبانه هو اتساع دائرة النسيان لتطغى على اكتشافه الذي أوصله لهذه القناعة المريحة.
بدأ الهلع و الخوف يحل محل السكينة و الطمأنينة، التي سكنت نفسه لبعض الوقت، ومن جراء هذه الحالة الجديدة زحفت ضبابية غربية على الوجوه، ماسحة عنها كل دليل يطبعها بطابع الاختلاف، و يوسمها كهوية لأصحابها، وأفقدتها بالتالي إمكانية تحديد هوية أصحابها.
حاول يائسا إيجاد مخرج، ترآى له بصيص من أمل في اختلاف الأماكن، لجأ إليه علة ينقذه مما هو فيه، تلك الدائرة اللعينة لم تتركه يهنأ كثيرا بما وصل إليه، اتسعت اكثر وأكثر زاحفة على الأماكن التي يعرفها، ماسحة عن تضاريسها كل اختلاف، جاعلة منها مكانا واحدا.
نهم الدائرة الغريبة طغى على حياته بقوة، وأصبحت تُضيق الخناق على حالات صحوته لتجعلها قليلة ومتباعدة، لإنقاذ نفسه من حدة وطأتها الخانقة، و كأمل الغريق في التعلق بأي شيء، ولو كان قشه، كتب في قصاصات ورق أهم خطوط حياته اليومية التي يريد اتباعها ؛ منذ استيقاظه من نومه إلى خلوده إليه.
نتيجة فكرته كانت هزيمة محققة، فعند فتحه لأي قصاصة من تلك الأوراق، يجد أن مضمونها لا يختلف عن بقيتها، لتتسع دائرة الغيبوبة ونهمها اكثر فاكثر، ويستمرا في التهام حالات صحوته القليلة ليجعلاها نادرة الحدوث.
آخر حالات صحوته النادرة خطر له فيها الكتاب، هرع إلى أول كتاب وجده في متناول يده، لم يعر العنوان اهتماماً، فكل العناوين لديه عنوان واحد، ولم يتبين موضوع الكتاب، فكل المواضيع عنده متشابهة.
جملة واحدة بين عشرات الجمل المتشابهة تراءت له باختلافها فأثارت بقايا ذاكرته المشوشة، وجعلت الحياة تدب في حنايا تفكيره المنهك، واستدعت بصعوبة بالغة جزءا من تركيزه الذي فقده بسبب زحف هذه الدائرة الشرهة على مجمل تفكيره، ومحوها لكل ما يحتفظ به، ويخزنه في ذاكرته.
تلك الجملة جعلته يقرأ ما بعدها بنهم غريب، كان قد فقده منذ زمن طويل .. أولا .. ثانيا.. ثالثا… ستجد ذاكرتك عادت نشطة وتركيزك أقوى مما كان.
هذا ما احتاجه، هتف في قرارة نفسه، فرح داخلي بعودة الأسماء لموافقة الوجوه، والوجوه لتعبر عن حقيقة الأشخاص، و التضاريس المختلفة تمنح الأمكنة تميزها.
غمرته السعادة، وضع الكتاب جانبا، ناويا البداية في تطبيق ما وجده فيه من تمارين لتنشيط ذاكرته منذ الصباح الباكر، استغرق في نوم عميق مريح، أفاق منه مذهولا يحك وسط رأسه الخالي تقريبا، محاولا استنتاج ما كان يريد فعله مباشرة، عند استيقاظه من نومه.


النص القصـصي " ابتسامة عابرة " يليها دراسة تحليلية للدكتور محمد الدمشاوي أستاذ الأدب العربي في جامعة طبرق وبعض الجامعات المصرية.

ابتسامة عابرة

جَلست خلف مقود السيارة ، بحركة آلية امتدت يدي لتضع المفتاح في مكانه المعتاد، أدرته ليشعل الحياة في محركها، لم أترك له فترة كافية ليستقر بعد أن أعلن سريان الحياة في أوصالها ، أطلقت لها العنان ورأسي مثقلة بهموم لا أستطيع أن أمسك أول خيط فيها، ولا استطيع أن اصل لنهاية خيطها.
في أخر قائمتها تربض بحميمية طلبات الصغار، وتتصدرها بإزعاج رؤية شريكة الحياة لهذه المرحلة من حياتنا، فهي أصبحت أكثر حرصا على أن تذكرني بوجودها في حياتي بمناسبة ودونها، يرافقه كم هائل من الشك والريبة من كل خروج أو سفر أو حتى مكالمة مغلوطة يكون طرفها من بنات جنسها، مع نفاذ كل أمر منطقي قدمته لكي أعلمها بأن ما يدور في ذهنها من أمور قفلت أمامه أبواب العقل والقلب، منذ أن تجاورا اسمينا على صفحة تلك الورقة المقدسة .
نظرة عابرة للمرآة التي تتوسط مقدمة السيارة ، جعلتني ألتمس لها العذر في كل ما تخشاه ، فالعمر وهموم الحياة تركا على جسدها بصمات غيرت في صورتها الكثير، أما أنا فلا زلت أقاوم عوامل الزمن رغم بعض الشعيرات البيضاء التي بدأت تتكاثر على جانبي الرأس ، إلا أن تقاسيم وجهي لا تزال تسيطر عليها لمحة من شباب ، الأمر الذي يجعل الكثير من الناس  يخطئون في تقديرهم للسنوات الماضية من قطار عمري،  فهم دائما يلحقوني بمحطات مررت عليها منذ زمن طويل.
يزيد هذه الأمور تعقيدا لديها بعضا من حكايات تسوقها الابنة الكبرى من باب الافتخار بوالدها الذي تتابع زميلاتها كل ما يكتبه بكثير من الإعجاب، كما أن بعضهن شاهدنه في مرات عابرة ولم يصدقن أنه والدها.
وصلت إلى أكثر شوارع المدينة حركة بالسيارات والبشر، كانت حركة السيارة في غاية الصعوبة، فهي لا تتحرك بضعة أمتار حتى تتوقف، إما بسبب توقف السيارات أمامها، أو لعبور المشاة عنوة من أمامها ، القلق يفرض نفسه من جراء هذه الحالة، أشد ما أكره القيادة في مكان كهذا، بطء حركة السير جعلني أدقق في كل ما يمر من أمامي، أو أمر من أمامه.
صرتُ أتسلى بقراءة الإعلانات على أبواب المحلات، وكأنني زائر للمدينة للمرة الأولى،  بدأت أدقق النظر في كل الوجوه المارة من أمامي سعيا  لقتل الوقت وتجنب الملل، وفي انتظارا  تحرك هذا الطابور الطويل .
فجأة عبرت من أمامي بابتسامتها الندية، وطلتها كزهرة برية ، تفتحت في يوم ربيعي ندي، كانت ترنو من عينيها نظرة  تحمل معاني لا تخطيء تفسيرها عيون البشر، أمام تلك الابتسامة التي يعجز كل ذي لب على كبت مشاعره تجاهها؛ فقدت الإحساس بعامل الزمن والشعور بحيز المكان، أعادت العبور مرة ثانية بعد أن وصلت للجهة الأخرى، أطلقت نحو سيارتي نظرة حالمة أعقبتها ابتسامتها الجميلة.
دارت تفاعلات المشهد منذ بداياته حتى هذه اللحظات في عقلي، حاملة تفسيرات وتعليلات شتى، هاهي فتاة لم تتخط بعد عقدها الثاني تحوم حولي بابتسامتها كأنها التقت فارسها بعد طول انتظار، لم تعد زحمة السير تقلقني بل صرت أتمنى أن تطول حتى لا أفقد أثرها، أما هي فقد أصبحت تركز على تحرك سيارتي ، وتطيل النظر في واجهة المحلات حتى أمر بقربها، قارب الشارع المزدحم على نهايته.
ألح علي خاطر بأن أحاول أن أجد موضعا قريبا أترك فيه سياراتي، وبالتالي أصل إلى نهاية الأمر مع صاحبة هذه الابتسامة العذبة، لاح مكان قريب يصلح لصف السيارة فيه، وقبل إتمام هذه العملية الأخيرة؛ تفاجأت بصوت على المقعد بجانبي يقول : حسن توقف هنا يا أبي .
هذا محل أحد الأصدقاء أريد النزول عنده.. كان ابني الذي على وشك مغادرة تخوم المراهقة قد صعد معي السيارة ، ولكوني أنساق وراء تداعيات الفكر وسيطرة اللحظة الراهنة نسيت أمر وجوده معي .
تابعته من خلل المرآة، وصل إلى حيث صاحبة الابتسامة، نظرا ناحيتي، ارتسمت على وجهيهما ابتسامة أكثر إشراقا، كان الشارع أمامي خاليّاً الآن مما يعرقل حركة السير، ضغطت دواسة البنزين، وابتسامة تحمل أكثر من معنى ترسمت عنوة على ملامحي.


لغة السرد وتجربة العبث ... د. محمد الدمشــاوي أستاذ اللغة والأدب العربي - جامعة طبرق.

قراءة  في القصة الليبية القصيرة
الإنســان ــ  التشيــؤ  ــ   الغربـــة
قراءة في قصة :
ابتسامة عابرة لعبد العزيز الروَّاف

لعل من الضـروريّ أن ندلف إلى قصـة "ابتسامة عابرة"  لعبد العزيز الروّاف عبر عتبة العنوان الذى يكاد يشكل الكلمة المفتاح لهذه القصة من خـلال ما يحيل إليه من المقاصد ، وما يحمله من الدلالات ، بل هو يشكل كشفا لمخبوء القصـة، وتعرية لمكنونهـا .
فالابتسامة عند القاص تكاد تتحول إلى رؤية سيميائية تقبع خلفها مجموعة من المعاني والمفاهيم والدلالات التي تنطلق مما أسسته الرؤية الشعبية في كثير منها، أو حتى تلك التي تكاد تكون مستقرة في الوجدان العربي من تنوع الابتسامات وتعدد دلالاتها .
ولعل الابتسامة العابرة التي يحملها العنوان تحيل إلى المفهوم الضدي للابتسامـة أو للفرح بوجه عام ، من خلال ما تشي به وما تقدمه من إشارة زمكانية إلى حـالة الحزن المسيطرة على بطل القصة؛ حيث هو حزن طويل وممتد ، زمانا ومكانا ، لا يزول بهذه الابتسامة العابرة التي لا تشكل سوى لحظة فارقة كشفت بجمالها الوقتي المحدود عن عبث الحياة التي كان يحياها في الماضي والتي سيعود إليها في المستقبل القريب ، كما كشفت عن مرارتها وقبحها ، وكأنها بذلك تشكل المعنى المشابه للشطر الأول والمضاد للشطر الثاني في قول الشاعر :
ضدان ماضينا وحاضرنا     والضد يظهر حسنه الضد
حيث إن الضد هنا يظهر قبح الضد، ويبرز بشاعته.
هذا فضلا عما يمكن أن تقدمه لفظة "عابرة " من إشارات أخرى عبر معانيها المتعددة ، وإشاراتها الدالة التي يمكن أن تؤول إليها، بما يمكِّن من تقديم قراءة أخرى تثرى القيمة الفنية لهذا العمـل الإبداعيّ، لا سيما إذا كان ذلك في معية هذه العبارة المهمة :
"عبرت من أمامي بابتسامتها النديَّة "
والعبور هنا هو عبور زمكانى يخترق المكان والزمان معا، لا سيما وأن إشكالية الزمن تكاد تشكل عاملا مهما ورئيسا من عوامل الإحساس بالعدمية ، كما تظهره لغة السرد، سواء من خلال الإسقاط على الزوجة وشريكة الحياة :
" فالعمر وهموم الحياة تركا على جسدها بصمـات غيرت من صورتها الكثير ، أما أنا فلا زالت مقاومتي لعوامل الزمن صـامدة رغم بعض الشعيرات البيضاء التي بدأت تتكاثر على جانبي الرأس "
أو من خلال رؤية الشخوص عبر مرآة الزمن، لا سيما تلك الشخوص التي كانت سببا في إدراكه لعبثية الواقع ، أو تلك التي تقف حائلا بينه وبين نيل السعادة والإحساس بالحياة ـ  مما يكشف ـ من خلال استنطاق الدراسات النفسية ـ عن انتباه لإشكالية الزمن ، وإدراك حاد لمعاداته للإنسان ، إلى الحد الذى يجعل منها أشكالا أخرى للإسقاط " البرجسونى" يفضى بنا إلى تحلل الذات وتشظيها :
"ها هي فتاة لم تتخط بعد عقدها الثاني ..." ،
" كان ابنى الذى يوشك على مغادرة تخوم المراهقة قد صعد معي إلى السيارة ".
وهو في ذات الوقت عبور للإنسان ... يخترق الآلة ، وينفذ من جدار التشيؤ إلى حقيقة الإنسان وإلى جمال الحياة عند هذا الإنسان .
بل إننا سنجد أن الابتسامة في هذه القصة تشكل محورا أساسيا يرتكز عليه القاص في التأسيس لمجموعة من المقاصد؛ مما جعل من الابتسامة هنا أيقونة رامزة، أو حقلا سيميائيا حافلا بالدلالات القابعة خلف كل ابتسامة على حدة، لعل أكثرها محورية هي تلك الابتسامة التي وقعت علي بطل القصة من الفتاة ، أو التي تكرر وقوعها عليه منها ، والتي يصفها بالنَديَّة مرة ، وبالجميلة مرة أخرى ، وبالعذبة مرة ثالثة ، حيث يقول:
"عبرت من أمامي بابتسامتها النديَّة "
وحيث يقول في موضع آخر :
" وأطلقت نحو سيارتي نظرة جذلى أعقبتها بابتسامتها الجميلة  "
 وكما يقول في موضع ثالث :
" فكرة ألحّت في الحال بأن أترك سيارتي وأن أصل إلى نهاية الأمر مع صاحبة أعذب ابتسامة... " .
 وهناك الابتسامة الـ " أكثر إشراقا "، والتي يشير من خلالها إلى تلك الحالة المزاجية للعاشقيْن ـ الفتاة وابنه ـ الذيْن سـرقا منه أملا كاد يسترده من الضياع ، ويُذهب عنه هموم الحياة ورتابتها .
وهناك الابتسامة التي " تحمل أكثر من معنى"، كتلك الابتسامة التي تأتى في خاتمة القصة:
" أصبح الشارع الآن أمامي خاليا مما يعرقل حركة السيارة ، ضغطت دواسة البنزين وابتسامة تحمل أكثر من معنى ترسّمت عنوة على ملامحي . " 
ومن ثم فالابتسامة في هذه القصة تكاد تكون هي الكلمة المفتاح لمعظم شخوص القصة ، ولمعظم أحداثها ، فضلا عن دورها في "التبئير" للقصة .
فإذا ما انتقلنا إلى متن القصة ، أو إلى تلك الحكاية التي ينسجها تدفق اللاشعور عند الراوي / السارد الذى يقبع خلف شخصية بطل القصة ، والذى يتحدث بضمير المتكلم ليعلن عن تواجده الدائم والمهيمن والموجه للمخاطب السرديّ منذ أن بدأ بإدارة محرك السيارة ليطلق لها العنان في حين تبدو رأسه مثقلة بشتى أنواع الهموم التي تبدأ في الظهور واحدا بعد الآخر.
 تلك الهموم التي تتواتر على ذهن الراوي ، أو البطل الحقيقيّ للقصة ، والتي تأتى على هيئة قائمة طويلة .. يأتي في ذيلها " طلبات الصغار" واحتياجاتهم ، ويأتي في أعلاها هموم شريكة حياته التي تلاحقه بشكّها وريبتها بمناسبة وبدون مناسبة ، وإن كان يلتمس لها بعض العذر حين ينظر في مرآة السيارة ليدرك أن عوامل الزمن التى أثرت فى زوجته وغيرت من مظهرها لم تغير منه الشيء الكثير .
 ثم تنطلق السيارة به في زحام المدينة المكتظة بالسيارات والبشر ليضطره هذا الزحام إلى البطء في الحركة ، لكنه يتيح له فرصة للتدقيق فى اللافتات وفى وجوه المارة ، وهنا تلتقى عيناه بتلك " العابرة " التي تبتسم له ابتسامة ندية تأسر لبَّه ، وتفقده الشعور بالزمان والمكان معا، وتجعله يقع فى شَرَك هذه الابتسامة، وفى شرك صاحبتها، لاسيما حين يدرك أن تلك الفتاة التي لم " تتخط بعد عقدها الثاني " تحملق فى السيارة، ليتأكد بالفعل أنها تقصده هو بالتحديد وليس غيره . ويخطر له عندئذٍ أن يبقىَ السيارة فى أحد الأماكن الفارغة ليتمكن من اللحاق بها من أجل أن يعيش معها لحظات من الحب والسعادة ، لكنه يفاجأ بذلك الصوت الذى يأتيـه من المقعد المجاور له قائلا:  " توقف يا أبى هذا محل أحد الأصدقـاء أريد النزول عنده " ، ليعلم في هذه اللحظـة أن هذا الصوت هو صوت ابنـه الذى يجلس إلى جواره في مقعد السيارة، ذلك الفتى الذى " يوشك على مغادرة تخوم المراهقة "، والذى كان قـد صعد إلى السـيارة معـه، ولأنه قـد " انساق وراء تداعيات الفكر وسيطرة اللحظة الراهنة" فقد نسيه ، وغفل عن أمر وجوده إلى جواره .
 ثم يتابع الرجل ابنه من خلال مرآة السيارة فيجده قد وصل إلى حيث صاحبة الابتسامة ، وأنَّهما نظرا ناحيته وقد " ارتسمت على وجهيهما ابتسامة أكثر إشراقا "، ليتأكد له عندئذٍ أن الابتسامة السابقة لم تكن موجهة إليه هو وإنِّما كانت لذلك الابن الذى يجلس إلى جواره ، وفى هذه اللحظة يدرك أن الطريـق قد أصبح خاليا من كل ما يعرقل حركة السير، فإذا به ينطلق وقد ارتسمت عنوة على وجهه ابتسامة تحمل أكثر من معنى  .
تلك هي الحكاية التي يصوغها السّارد على هيئة من التداعي اللاشعوريّ الذى يفيض من المخزون الجارف على تلك الرأس المثقلة بالهموم والأعباء الحياتية ، وتلك هي القراءة الأولى للنص بشموليته .
لكننا عندما نعيد قراءة القصة مرة أخرى، وبصورة أكثر رويَّة ، سندرك أننا أمام تجربة مغرقة في العبث ، وموغلة في العدمية ، تتجسد لنا عبر عدة زوايا ، وإن كانت الزاوية الأوضح والأهم في ذلك هي تلك الصياغة التي يصوغها السارد عبر فكرة العالم الموازي الذى يصنعه القاص .
 ذلك العالم الموازي هو عالم " السيارة " التي يدور محركها مع أول حركة لبطل القصة ، ليستمر معه في حركة موازية وملاصقة لحركاته وساكناته، بل وتختتم القصة مع حركة السيارة أيضا لتصاحب ديمومة الحركة والدوران حتى في تلك الانطلاقة الجديدة التي تعقب الصدمة ، أو حالة المفاجأة ، والتي يعود من خلالها بطل القصة إلى حالة التشيؤ مرة أخرى ، أو يعود إلى تلك الدائرة المفرغة من جديد ، والتى تجسدها جملة الخاتمة:
 " أصبح الشارع الآن أمامي خاليا مما يعرقل حركة السيارة، ضغطت دواسة البنزين وابتسامة تحمل أكثر من معنى ترسمت عنوة على ملامحي "
فهي إذن حالة من التلازم والتلاصق والتماهي بين ذلك البطل المتشيئ وبين تلك السيارة .. حالة قصد إليها القاص الذى حرص على هذا التلازم من بداية الاستهلال وحتى جملة الخاتمة مرورا بمجمل الأحداث.
ولعل نظرة سريعة إلى لغة السرد ، التي نجح القاص ـ إلى حد بعيد ـ في أن يجعلها تتواءم مع هذا السياق ، تكشف لنا عن تلك الرؤية :
فإذا وقفنا عند الاستهلال الذى يكاد يرتقى بنا درجة أخرى بعد عتبة العنوان نحو رؤيوية المؤلف ومقصديه السارد ، أو ما يعرف بـ" التبئير" ، وهو هنا تبئير داخليّ يكشف مخبوء النفس ، ويعلن عما يدور في دواخلها ، كما يظهر من توجيهه للحكاية حيث يقول :
 " أدرت محرك السيارة، لم أترك له فترة كافية ليستقر بعد أن أعلن سريان الحياة فى أوصالها... "
فالملاحظ هنا أن الاستهــلال يبـدأ بكلمـة: " أدرت " التي تأتى متوافقة مع السياق الذى يريده القاص ؛ فهي تحيل إلى تلك الدائرة التي يدور فيها ذلك الإنسان الآلة ، أو الإنسان الذى تحول بفعل حركة الزمن القدريّة ـ حسب مفهوم المؤلف ـ  أو بفعل الهموم والمتاعب التي تثقل كاهله ، إلى آلة تعمل ليل نهار لتوفر متطلبات الغير ـ طلبات الصغار وشريكة الحياة .
  ثم  يأتي التعبير الاستعاري الذى يصور ديمومة الحركة وعدم القرار :
" لم أترك له فترة كافية ليستقر بعد أن أعلن سريان الحياة فى أوصالها " .
وحين يتحدث عن أثر عـامل الزمن عليه وعلى زوجته يأتي قوله:
 " يضاف إلى كل هذا أن المعارف( ) كثيرا ما يلحقونني بمحطات مررت عليها منذ زمن بعيد "
وحين يتحدث عن وصوله إلى مركز الزحام في المدينة يأتي قوله:
" وصلت إلى أكثر شوارع المدينة حركة بالسيارات والبشر ، أصبح تحرك السيارة في غاية الصعوبة فهي تسير لبرهة وتتوقف زمنا ، القلق يفرض نفسه من جراء هذه الحالة "
حيث تأتى حالة التلازم المقصود بين الإنسان والآلة ، أو السيارة على وجه التحديد .
وحين يتحدث عن متابعة صاحبة الابتسامة له يأتي قوله :
"أطلَقَتْ نحو سيارتي نظرةً جذلى أعقبتها بابتسامةٍ جميلة "
ثم يأتي قوله :
" زاد غبطتي أكثر تركيزها على تحرك سيارتي حتى أمر بقربها " .
بل إن هناك ملمحا آخر شديد الأهمية يتبدى لنا في لجوء القاص إلى أن يجعل من مرآة السيارة منظار حقيقيا يصوب له الأمور، ويصحح له الأخطاء ، ويطل من خلاله على العالم ؛ فيقول حين يتحدث عن الشك الذى ينتاب زوجته ، والذى يشكل عاملا آخر من عوامل القلق والتوتر :
" نظرة عابرة للمرآة بوسط زجاج السيارة الأمامي جعلتني ألتمس لها بعض العذر فيما تخشـاه "
وحين يحاول معرفة الجهة التي يذهب إليها ابنه يقول:
" تابعته من خلال المرآة ..."
وكل هذه العبارات إنما تؤسس لشيء واحد هو خلق حالة من التماهي بين السارد ، الذى يختفى وراء شخصية بطل القصة ، وبين السيارة ، أو بين الإنسان داخل السارد وبين الآلة .
ثم تأتى لحظة التمرد التي يحاول بطل القصة من خلالها الخروج على قوانين العالم القهري ، والتمرد على الحاضر، أو التمرد على هذا الواقع المرير، أو حالة الرفض للآلة والخروج من حالة التشيؤ إلى الإنسان/ الإرادة والمشيئة ، أو الإنسان/ الحياة والسعادة والوجود والإدراك ، فإذا بلغة السرد تنقلنا هي الأخرى إلى مرحلة أكثر تطورا كما يتبين في قوله :
" فكرة ألحت في الحال بأن أجد موضعا قريبا أترك فيه سيارتي وأن أصل إلى نهاية الأمر مع صاحبة أعذب ابتسامة... "
وكما في قوله مشيرا إلى محاولة بطل القصة إلى التخلص من السيـارة والانطلاق وراء المحبوبة:
" لاح مكان يصلح لصف السيارة فيه  "
لتقدم هذه التعبيرات المبطنة تجسيدا لحالة الرفض والتمرد، والسعي نحو الخلاص بصـورة غير مباشرة .
لكن القاص لم يرد لهذا الإنسان أن يتحرر من هذه الآلة ؛ حيث يأتي في هذه اللحظة موقف ابنه الذى يظهر فجأة ، ودون مقدمات ، وكأنه تجسيد لحالة القدريّة التي يذهب إليها المؤلف ، ليعلن قتل هذه الحالة من التمرد والرفض ، وعودة الأب إلى ديمومة العبث من جديد ؛ ومن ثم تأتى جملة الخاتمة لتتقرر على أثر ذلك حالة التماهي والتوحد مرة أخرى بين الإنسان والآلة لتعود حالة التشيؤ لهذا الإنسان من جديد :
 " ضغطت دواسة البنزين وابتسامة تحمل أكثر من معنى ترسمت عنوة على ملامحي  "
ليختتم القاص حكايته بهذه العبارة المنتقاة التي تحيل إلى عودة الإنسان إلى الآلية وإلى الحركة المطردة في الدائرة المفرغة المسماة حياة ـ حسب المفهوم العبثي ـ ومن ثم لم يكن غريبا أن نجد أن الابتسامة ترتسم عنوة على ملامحه دون إرادة منه ودون مشيئة .
بل إن هناك زاوية مهمة لا تقـل عن سابقاتهـا تنبئ بها تلك الصياغة التي يصوغها السـارد للحكاية عبر القص اللاشعوري لينفي عن السارد حتى القدرة على القص والحكي ، وإنما يتساقط منه الكلام عبر هذا التدفق اللاشعوري أو اللاإرادي ، فضلا عن الكثير من التعبيرات الاستعارية أو الحقيقية التي تحاول الوصول إلى هذا المقصـد ذاتـه ، كما في قوله :
" دارت تفاعلات المشهد ...في عقلى "
وقوله :
" همسٌ داخلىٌّ فرض نفسه "
فضلا عن قوله الذى سبقت الإشارة إليه :
"...وابتسامة تحمل أكثر من معنى ترسمت عنوة على ملامحي "
وإذا كانت لغة السـرد قد نجحت في تشكيـل وتجسيد حالـة التشيـؤ لبطل القصـة ، أو عند الإنسان / الآلة ، فإنها على الجـانب الآخر من الصورة قد نجحت في تشكيـل الصـورة الضدية للآلة / السيارة / الإنسان ، أو المعادل الموضوعى للصورة السـابقة ، وهى صـورة سـاخرة تظهر مدى الدونية التي وصل إليها ذلك الإنسان العبثىّ من خلال تلك الصورة المعيـارية التي يقـاس عليها ؛ فهو أدنى من هذه السيـارة التي تدب الحيـاة في أوصالها ، كما جاء في الاستهلال ، وفى إطار التعبير عن دوران محـرك السيارة :
" أعلن سريان الحياة في أوصالها "
و ينجح القاص عبر لغة السرد في تغييبه لقائد السيارة بصورة مقصودة لتبدو لنا السيارة وكأنها هى التى تملك الإرادة في السير والتوقف كما يتراءى لها:
" تسير لبرهة وتتوقف "
وكل ذلك يظهر وضوح الرؤية عند القاص الذى نجح في تسخير كل عناصر القصة لتوصيل رؤيويته .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

شكـرا لمشـاركتنا برأيـك