تظل بريطانيا أكثر دولة أوربية عبثا بالوطن العربي، وساهمت سياستها بإفساد العلاقات العربية، واخضاعها للمزاج
الانجليزي التآمري، كما يظهر بوضوح قدرة الانجليز على فهم العقلية العربية، واللعب
على أوتار معينة للمزيد من الفتنة وزرع الشقاق الدائم.
ولذك سعى الانجليز منذ زمن على اظهر
أنفسهم بفهم الحالة العربية، وأنهم الأقدر على التفاهم مع العرب، والعمل على تطوير
بلدانهم ومساندتهم، مستغلين ظروف سياسية واقتصادية وصراعات محلية لتأسيس هذا
الواقع في المحيط العربي، واعتمدت بريطانيا سياسة اقحام شخصيات قوية تتفهم طبيعة
الشخصية العربية وتجيد التعامل معها من هذه الشخصيات، شخصيتين لعبت في فترة الحربين العالميتين الأولى
والثانية أدوارا مشبوهة في سبيل التحكم بما يدور في المنطقة العربية، ومن هذه
الشخصيات، الشخصية الأولى هي T. E. Lawrence.
توماس إدوارد لورنس (16 أغسطس 1888 -
19 مايو 1935) ضابط بريطاني اشتهر بدوره في مساعدة القوات العربية خلال الثورة
العربية عام 1916 ضد الإمبراطورية العثمانية، عن طريق انخراطه في حياة العرب
الثوار، وعرف وقتها بلورنس العرب، وقد صُور عن حياته فيلم شهير حمل اسم لورنس
العرب.
كتب لورنس سيرته الذاتية في كتاب حمل
اسم اعمدة الحكمة السبعة، قال عنه ونستون تشرشل: "لن يظهر له مثيل مهما كانت
الحاجه ماسه له" ، عندما قامت الحرب العالمية الأولى وأعلنت الدولة العثمانية
الحرب على إنجلترا.
في هذه الأثناء كانت الدولة العثمانية تعاني من
كراهية العرب لحكمها نتيجة التفرقة بين الأتـراك والعرب، والظلم والقهر الذي مارسه
الأتراك في هذا الشأن. سعت إنجلترا في الاستفادة من إمكانياتها في المنطقة لتحقيق
نصر في الحرب.
قام السير "جليبرت كلايتون"
باستدعاء لورنس بعد أن ذاع صيته كعالم آثار بعد البحث الذي قام به عن بلاد الشرق
إلى مكتبه بمقر القيادة العليا للجيوش البريطانية في القاهرة. أمر كلايتون بتعيين
لورنس في قسم الخرائط. وكانت هذه هي الفرصة الوحيدة للتثبت من صحة الخرائط
بالواقع.
ظهرت عبقرية لورنس في هذا المجال كما
امتدت آراؤه للخطط العسكرية في هذا الشأن. فقام كلايتون بنقله إلى ( قسم المخابرات
السرية ). كان لورنس يحفظ المواقع التركية عن ظهر قلب مما ساعد الإنجليز كثيرا.
استغل لورنس علاقاته بالعرب لإيهامهم أنه يريد مساعدته لمواجهة الغطرسة التركية،
وقد ساعدته معرفته باللغة العربية لإضافة مصداقية له في هذا الشأن.
انتقل لورنس إلى الجزيرة العربية ليقف
على حقيقة الثورة العربية المشتعلة ضد الأتراك بقيادة الشريف حسين. تقابل لورنس مع
الأمير عبد الله الأبن الثاني للشريف حسين. كان لورنس يبحث عن شخصية الزعيم
والقائد للثورة التي يمكن أن تساندها إنجلترا، و لم يجد لورنس في الأمير عبد الله
ولا الأمير علي تلك الشخصية القيادية التي يبحث عنها. ثم التقى بعد ذلك بالأمير
فيصل النجل الأكبر للشريف حسين. وقد وجد لورنس في شخصية فيصل ما كان يبحث عنه.
تباحث لورنس مع فيصل في وضع الثورة ونجاحاتها وإخفاقاتها وتبين له أن الهجوم الأول
للثوار على المدينة المنورة قد فشل، نتيجة استخدام الأتراك للأسلحة الحديثة وخصوصا
المدافع التي أثارت الرعب في نفوس العرب لجهلهم بها أو كيفية استخدامها.
كان لورنس شديد الاعجاب بالشعور الوطني
لدى النفوس المتمثل بالقومية العربية والبعيد كل البعد عن النزعات العقائدية ولا
علاقة لها بالإسلام. وادرك أن الثورة التي يقودها الشريف حسين ثورة عربية قومية
وليست إسلامية مما أطرب مشاعر لورنس.
تمنى لورنس لو أن مصر تلحق بركب الثورة
القومية بوصفها أكبر البلدان العربية والإسلامية وأن ايمانها بالقومية العربية على
حساب الإسلام سيدفع بالثورة إلى الأمام. و بدأ لورنس خطة جديدة لاستقطاب شيوخ
وزعماء القبائل والعشائر العربية وضمها في صفوف الثورة. فذهب إلى زعماء القبائل
بصفته مبعوث الأمير فيصل وتحت حراسته يتفاوض معهم حتى استطاع اقناعهم بوقف الحروب
فيما بينهم والانضمام للثورة. و نجحت الثورة العربية الكبرى ضد الدولة العثمانية
بمعاونة الانجليز سنة 1916.
الشخصية الثانية St John Philby هاري سانت جون بريدجر فيلبي ( 1885 - 1960
م ) ، ويعرف أيضاً باسم "جون فيلبي" أو الشيخ عبد الله فيلبي، هو
مستعرب، مستكشف، كاتب، وعميل مخابرات بمكتب المستعمرات البريطاني.
في نوفمبر من عام 1914م، بعد إعلان
الحرب ضد تركيا تم إنزال قوات بريطانية هندية في العراق وسرعان ما احتلوا منطقة
البصرة، وقد أخذ الأتراك معهم عند انسحابهم من البصرة كل السجلات الحكومية، وغيرها
مما يتعلق بالتنظيم الإداري للبصرة، فأصبحت الحاجة ماسة إلى إعادة بناء التنظيم
الإداري في المنطقة، وكان فيلبي من بين الذين اختيروا للقيام بتلك المهمة، وقد وصل
إلى هناك ليمارس أول تجربة له في حياته في البلاد العربية وكان ذلك في عام 1915
وأنيطت به مهمات عديدة كجمع الضرائب، والإشراف على إصدار جريدة لصالح الدعاية البريطانية.
يعد فيلبي أحد الأشخاص شديدي التأثير
على تشكيل تاريخ العرب الحديث بالرغم من قلة ذكر اسمه. ففي آخر عام 1915 قام پرسي
كوكس, كبير الضباط السياسيين في قوة تجريدة الرافدين British Mesopotamian expeditionary
force
في الجيش البريطاني بتجنيد فيلبي كوزير التمويل في إدارة الاحتلال البريطاني في
بغداد head of
the finance branch of the British administration، وكان من مهام الوظيفة تحديد الرواتب
والمبالغ التي تُصرف للمواطنين لقاء خدماتهم وممتلكاتهم. وكان الهدف الحقيقي
للإدارة يتكون من جزئين: (1) تنظيم ثورة عربية ضد العثمانيين؛ (2) حماية آبار
النفط بالقرب من البصرة وشط العرب, والتي كانت المصدر الوحيد للنفط للأسطول
البريطاني.
الثورة العربية قامت بناء على وعد من
بريطانيا بإنشاء دولة عربية موحدة, أو اتحاد عربي, من حلب إلى عدن.
وفي نوفمبر 1917, اُرسل فيلبي إلى قلب
الجزيرة العربية على رأس بعثة إلى ابن سعود. شيخ القبيلة الوهابي والعدو اللدود
للشريف حسين كان كثير الإغارة على الحاكم الهاشمي للحجاز, الذي كان يقود الثورة
العربية التي اندلعت في يونيو من العام السابق.
كانت السلطات البريطانية قلقة جداً
بسبب المنافسة القديمة القائمة بين شريف مكة، وبين ابن سعود حاكم نجد، وحاولت قدر
الإمكان منع تلك الخلافات من أن تبدد جهد الأشراف في الحرب ضد الأتراك، وحاولت في
نفس الوقت جلب حاكم نجد إلى جانب الحلفاء.
وصل فيلبي إلى العقير قرب البحرين في
أحسن الملابس التقليدية للإمبراطورية في الهند، إذ كان يرتدي بنطلونا قصيراً
وقبعة، وفي أول توقف له أثناء رحلته طالبه مضيفوه بأن يقلل من مظهره الأوروبي
الجلي، بارتداء الزي المحلي لتسهيل عملية تنقله في تلك الأرض التي لا يرحب أهلها
بوجود نصراني بينهم، وبعد رحلة دامت سبعة أيام على جمل، وصل فيلبي إلى الرياض،
وقابل هناك ولأول مرة ابن سعود، عبد العزيز بن عبد الرحمن بن سعود. عاش في قصره
المبني من اللبن في الرياض، وفي الصحراء عاش في خيمة.
قامت صداقة بين فيلبي وابن سعود الذي
أصبح يدعوه باستمرار إلى مجالسه العائلية مع أولاده، فنراه يلعب ويمزح مع الأمراء
الشباب، وكان من أحد جلساء الملك الذين يحضرون مجلسه الخاص. فيلبي في المقابل أصبح
يفضل ابن سعود على الشريف حسين كـ"ملك للعرب"، وكان ذلك ثاني حنث في ذات
الشهر من قبل بريطانيا لوعدها بتأييد الشريف حسين ملكاً للعرب من حلب إلى عدن؛
(الحنث الأول تمثل في وعد بلفور بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين).
فيلبي كان يعلن على الملأ اعتقاده
بتطابق أهداف بريطانيا وابن سعود في توحيد جزيرة العرب من البحر الأحمر إلى الخليج
العربي تحت قيادة ابن سعود واحلال ابن سعود محل الهاشميين كـ "خادم الحرمين
الشريفين" وتأمين طريق الملاحة السويس - عدن- بومباي للإمبراطورية
البريطانية.
في عام 1924, تم الاعلان عن اجبار
فيلبي على الاستقالة من منصبه كمدير للمخابرات الحربية في فلسطين الانتداب وذلك
بسبب خلاف على الهجرة اليهودية إلى فلسطين (حسب ما اشيع). وقيل أنه كان يراسل ابن
سعود بدون إذن, مما يعطي الانطباع بأنه كان جاسوساً لحساب ابن سعود, أي أنه انقلب
إلى صف المحليين "Gone native".
بقاؤه على راتب المخابرات الحربية البريطانية لمدة خمسة أعوام بعد تركه منصبه في
القدس يقوض تلك الاشاعة وأنه ارسل في مهمة (أخرى).
بعد وصول فيلبي للرياض بفترة وجيزة
أعلن ابن سعود عن نيته الاطاحة بالهاشميين عن مُلك الحجاز. عمل فيلبي مستشاراً
(على راتب المخابرات البريطانية) لابن سعود في بسط نفوذه في مختلف أرجاء الجزيرة
العربية ومنها الحجاز. وفي عام 1925 عينه ابن سعود مسئولاً عن تتويجه ملكاً على
المملكة العربية السعودية المنشأة لتوها.
بعد زيارة إلى لندن، عاد فيلبي إلى جدة
ليؤسس شركة تجارية. وقد استورد السيارات وخطط لسحبها فوق التلال الرملية بواسطة
قافلة من الجمال، كما أنه ساهم أيضاً في إدخال أجهزة الراديو والهاتف، ولكن ذلك
كان في حاجة لنفوذ ابن سعود الشخصي لإقناع العناصر المحافظة بأن ذلك الصوت الذي
يسمعونه من مكان بعيد، ليس بصوت الشيطان نفسه. خلال الآونة نفسها نشط فيلبي في
الكتابات الجغرافية في الإعلام العالمي. وعلى ظهر جمل قام فيلبي برسم (أو ترسيم)
الحدود السعودية اليمنية. تواجده على الحدود تزامن مع اندلاع الحرب اليمنية
السعودية.
ومن موقعه الخاص أصبح كبير مستشاري
الملك عبد العزيز للشئون الخارجية. اعلن اعتناقه الإسلام في أغسطس 1930, ولكنه لا
يبدو أنه كان ملتزما بتحريم الخمر. وفي عام 1931 دعا تشارلز كرين إلى جدة لتسهيل
التنقيب عن النفط في الأراضي السعودية. كرين كان يصاحبه المؤرخ جورج أنطونيوس,
الذي عمل مترجماً في تلك الزيارة. وفي مايو 1933, أتمت شركة ستاندرد اويل اوڤ
كاليفورنيا Standard
Oil of California -SOCAL
مفاوضاتها مع فيلبي موقعة عقد امتياز
حصري لمدة 60 سنة للتنقيب عن وإنتاج النفط في منطقة الأحساء على الخليج العربي.
دلت تلك الصفقة على بدء حلول النفوذ الأمريكي في المنطقة محل النفوذ البريطاني.
الاتصالات الشخصية بين الولايات المتحدة والسعودية كان معظمها يتم عبر فيلبي شخصياً.
وفي عام 1936 ضمت شركتا سوكال وتكساكو
ممتلكاتهما شرق السويس في شركة سميت لاحقاً أرامكو ARAMCO - Arabian-American Oil Company. وزارة الخارجية
الأمريكية تصف أرامكو بأنها أغنى جائزة تجارية في تاريخ الكوكب. وقد كان فيلبي
ممثل السعودية في الشركة.
وفي عام 1937 بدأ فيلبي مفاوضات هادئة
مع بن جوريون للسماح بهجرة يهودية غير محدودة إلى فلسطين وفي نفس السنة اندلعت
الحرب الأهلية الإسبانية, فرتّب فيلبي لابنه, كيم فيلبي أن يعمل مراسلاً حربياً
لجريدة التايمز هناك.
بعد وفاة الملك عبد العزيز في 1953
جاهر فيلبى بانتقاده خليفته الملك سعود، قائلاً أن "أخلاق العائلة الملكية
تؤخذ من مزابل الغرب". تم نفيه إلى لبنان في أبريل 1955. وفي المنفى كتب: "السبب
الحقيقي في كراهية العرب للهجرة اليهودية إلى فلسطين هو عقدة الخوف من الأجانب Xenophobia, والاعتقاد الغريزي بأن
الغالبية العظمى من يهود وسط وشرق أوروبا, الساعين للهجرة، هم ليسوا من الساميين
على الإطلاق، وأيا كانت الأصداء السياسية لاستيطانهم فإن مجيئهم سيكون مزعجاً للثقافة
الساميّة لجزيرة العرب، اليهودي الأوروبي المعاصر, بمنظوره العلماني، يعتبر دخيل
غير مرحب به على أبواب الجزيرة العربية".
وأخيرا ألا تلتقي هذه الاشارات
التاريخية البسيطة، مع ما يحدث في عالمنا العربي اليوم، وما نشاهده من تدخلات
سافرة من هذه الدولة في شؤون دولنا، وتفسيرها لمالا نعيشه ونشعر به وفق ما تراه وتريده
هي.




ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
شكـرا لمشـاركتنا برأيـك